و إن الأمر ليزداد شدة على أئمة المسلمين و علمائهم، بل و امراء المؤمنين و من ينوب عنهم؛ فصحة صلاة المسلمين و إقامتها على الوجه المطلوب من مسؤوليات أمراء المؤمنين،
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كما في " مجموع الفتاوى" (28/ 360): و من تمام ذلك (أي: واجبات أمراء المؤمنين في السياسة الشرعية): تعاهد مساجد المسلمين و أئمتهم، و أمرهم بأن يصلوا بهم صلاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم حيث قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري، و صلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال:" إنما فعلت هذا لتأتموا بي و لتعلموا صلاتي."
و على إمام الناس في الصلاة و غيرها أن ينظر لهم، فلا يفوتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينهم، بل على كل إمام للصلاة أن يصلي بهم صلاة كاملة و لا يقتصر على ما يجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الإجزاء إلا لعذر. انتهى
و لا شك أن ضبط الإمام للآيات التي يقرؤها من أعظم الأسباب المعينة على صحة صلاة المسلمين بل و على خشوعهم، فلو كثر خطأ الإمام في القراءة و بدأ المأمومون بالفتح عليه على الهيئة التي نراها من المسلمين في هذه الآونة فلا شك هذا ناقض لمبدأ الخشوع و قوله تعالى (و قوموا لله قانتين) (البقرة:238)،
و قد روى البخاري (5033) و مسلم (791) من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال:" تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها."
و روى البخاري (5031) و مسلم كذلك (789) من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: " إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها و إن أطلقها ذهبت".
و المعروف: أن الإبل إذا ذهبت و تفلتت من صاحبها لا يقدر على الإمساك بها إلا بعد تعب و مشقة فكذلك صاحب القرآن إن لم يتعاهد حفظه بالتكرار و المراجعة انفلت منه و احتاج إلى مشقة كبيرة لاسترجاعه،
قال الحافظ ابن حجر في" فتح الباري" (6/ 76): ما دام التعاهد موجودا فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودا بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورا، و في تحصيلها بعد استكمان نفورها صعوبة. انتهى
قال الإمام النووي في" المنهاج" (3/ 336): فيه: الحث على تعاهد القرآن و تلاوته و الحذر من تعريضه للنسيان، قال القاضي: و معنى (صاحب القرآن) أي: الذي ألفه، و المصاحبة: المؤالفة، و منه: فلان صاحب فلان، و أصحاب الجنة و أصحاب النار، و أصحاب الحديث، و أصحاب الرأي، و أصحاب الصفة، و أصحاب إبل و غنم، و صاحب كنز و صاحب عبادة. انتهى
و روى البخاري (5032) من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت و كيت بل نسي، و استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم".
قال ابن بطال كما في " فتح الباري" (9/ 81): هذا حديث يوافق الآيتين، قوله تعالى (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) (المزمل:5) و قوله تعالى: (و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (القمر: 17) فمن أقبل عليه بالمحافظة و التعاهد يسر له، و من أعرض عنه تفلت منه، و في هذا حض على دوام مراجعة الحفظ و تكرار التلاوة خشية النسيان، و قد ضرب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم هذا المثل لأنه أقرب في توضيح المقصود، كما أكد ذلك بالقسم تأكيدا على أهمية تعاهد القرآن و مراجعة الحفظ. انتهى
و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، و متضافرة في التحذير الشديد، و الوعيد الأكيد لمن تغافل عن القرآن حتى تفلت من صدره، و لا سيما أئمة الصلاة، فإن الإمام المفرط في متابعة القرآن الكريم و مراجعته لا يفسد على نفسه فقط، بل يفسد على المسلمين صلاتهم، و حسبه بذلك جرما و مخالفة، و الله تعالى اعلم.
فصل في بيان مشروعية الفتح على الإمام
و الرد على من أنكرها
¥