النوع الأول: المصطلحات الحادثة في الأبواب التوقيفية , التي لا تؤخذ إلا من النصوص , كأسماء الله تعالى وصفاته , فهذه لا تقبل من جهة لفظها , وأما معناها فإنه لا بد أن يستفهم عنه فإن ذكر معنى صحيح قبل وإلا فلا
النوع الثاني: المصطلحات الحادثة في الأبواب الاجتهادية , ومن أشهر تلك الأبواب التقسيمات العلمية , كالتقسيمات التي يذكرها العلماء في كتب الفقه وأصوله وكتب العقائد وغيرها , فهذه التقسيمات ليست توقيفية بحيث يشترط فيها أن يأتي في النصوص ذكر لألفاظها , وإنما يشترط فيها توفر أمرين فقط , هما:
1 - أن تكون مستقيمة في المعنى.
2 - ألا تكون متضمنة لما هو مخالف للشريعة.
فكل تقسيم علمي توفر فيه هذان الأمران فإنه تقسيم صحيح مقبول , لا يصح أن ينكر , وإلا فسننكر تقسيمات العلماء المذكورة في المصنفات العلمية.
وعلى فهذا فإنه لا يصح إنكار تقسيم الدين إلى أصول وفروع في أصله؛ لأنه داخل في التقسيمات العلمية التي بابها باب الاجتهاد.
الأمر الثالث: أن النصوص التي اعتمد عليها من نسب إلى ابن تيمية إنكار تقسيم الدين إلى أصول وفروع لا تدل على ذلك , وهذا يظهر بالتأمل في سياقاتها وتراكيبها.
وبيان ذلك: أن يقال: إن النص الأول ليس فيه إنكار لأصل التقسيم , وإنما فيه إنكار لبعض التعاملات الخاطئة معه , فابن تيمية ذكر هذا النص في سياق تأصيله لمسألة التصويب والتخطئة , وهل الإنسان يأثم في خطأه بعد اجتهاده أم لا؟ , وقرر أن من استفرغ وسعه في الاجتهاد فإنه لا يأثم ولا فرق في ذلك بين مسائل أصول الدين وفروعه , ولا بين المسائل الخبرية والعلمية , وقرر أن هذا هو مذهب المتقدمين من الصحابة ومن بعدهم , ونبه على أنهم لم يكونوا يفرقون في مسائل التصويب بين ما كان يفعله المتكلمون في التفريق بين أصول الدين وفروعه أو بين مسائل خبرية ومسائل عملية , وهذا ما يدل عليه سياق كلامه , وفي هذا يقول بعد ذكر لحكم المخطئ في اجتهاده وأنه لا يأثم:" وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع , ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع , بل جعل الدين قسمين أصولا وفروعا لم يكن معروفا في الصحابة والتابعين , ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع , ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم وحكوا عن عبيد الله بن الحسن العنبرى أنه قال كل مجتهد مصيب ومراده انه لا يأثم" الفتاوى (13/ 125) , فهذا النص ليس فيه إنكار لأصل التقسيم وإنما فيه أن ابتداء التقسيم كان من المعتزلة , وهذا ليس مناطا لإبطال التقسيمات العلمية , وغاية ما يريد أن يقول إن الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يتعاملون مع مسائل التصويب والتخطئة بناءا على تقسيم الدين إلى أصول وفروع فقط.
وأما بالنسبة للنص الثاني فسياق كلامه لم يكن في بيان حكم تقسيم الدين إلى أصول وفروع , وإنما في بيان حكم المخطئ في الاجتهاد ومتى يحكم بكفره ومتى يحكم بإثمه , وقرر أن المجتهد لا يحكم بكفره ولا بإثمه ما دام قد بذل جهده في الاجتهاد ولا فرق في ذلك بين ما يسمى أصول دين أو فروعه أو ما يسمى مسائل خبرية أو مسائل عملية , ثم نبه على أن السلف لم يكونوا يتعاملون في مسائل التصويب بناءا على تقسيم الدين إلى أصول وفروع كما كان يفعل المتكلمون , نبه على أن هذا التعامل الذي يفعله المتكلمون لم يكن معروفا عند الصحابة ومن بعدهم ولهذا لم يريبوا عليه الأحكام التي رتبها عليه المتكلمون , وهذا هو الذي يدل عليه سياق كلامه لمن تأمله.
ومما ينبغي أن ينبه عليه هنا هو أن ابن تيمية لا يعتمد في إبطال تقسيم الدين إلى أصول وفروع على أنه لم يكن معروفا عند الصحابة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لأنكر كل التقسيمات التي يذكرها الفقهاء وغيرهم في كتبهم لأنها كلها لم تكن موجودة عند الصحابة , فهو إذن إنما ينكر الأحكام التي رتبها المتكلون على تقسيم الدين إلى أصول وفروع , وهذا أمر صحيح.
وأما بالنسبة للنص الثالث فهو مثل النصوص السابقة ليس فيه إلا إنكار الأحكام التي رتبها المتكلمون على تقسيم الدين إلى أصول وفروع , وأن هذه الأحكام لم تكن معروفة عند الصحابة ومن بعدهم , فكل من رتب حكما في التصويب والتخطئة بناءا على ما ذكره المتكلمون في تقسيم الدين إلى أصول وفروع فقد أتى بشيء لم يكن الصحابة تعرفه , ولكن هذا الكلام ليس فيه إنكار لأصل التقسيم , ولا يصح أن يؤخذ منه أن ابن تيمية ممن ينكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع.
وخلاصة ما سبق: أن ابن تيمية لا ينكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع , وإنما ينكر فيه أمرين هما:
1 - الظوابط التي ذكرت له.
2 - الأحكام التي رتبت على هذا التقسيم.
يتبع: الفرع الثاني: ضابط أصول الدين وفروعه عند ابن تيمية.
¥