تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لكنني أشير هنا إلى أن الحافظ ابن حجر العسقلاني قد أشار إلى تلك التهمة التي تضمنتها رواية ابن بطوطة، دون أن يذكر الحادثة كما رواها ابن بطوطة؛ فقد روى أن خصوم ابن تيمية اتهموه بأنه «ذكر حديث النزول ونزل المنبر درجتين، فقال: كنزولي هذا. فنسب إلى التجسيم» [7].

وأقول - تعقيباً على ذلك -:

أولاً: إن ابن حجر لم يذكر ما أوردناه من باب أنه حادثة وقعت لابن تيمية فعلاً، وإنما ذكره من باب أنه تهمة اتهمها بها خصومه.

ثانياً: إن رواية ابن بطوطة قالت إنه نزل عن المنبر درجة واحدة، وليس درجتين على ما ذكره ابن حجر.

وثالثاً: أن ما قلناه في الدليل الثاني يبطل هذه التهمة التي أوردها ابن حجر.

ورابعاً: إنه - أي ابن حجر- ذكر في موضع آخر- من نفس الكتاب - سبباً آخر في اتهام ابن تيمية بالتجسيم، وهو ما أورده في كتابيه العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما، من إثبات للصفات على الحقيقة لا المجاز [8]. وهذا يعني أن سبب إتهامه بالتجسيم هو ما أورده في كتبه من إثبات للصفات وليس ما زعمته تلك الرواية عن حادثة النزول.

مع العلم أن ابن تيمية يخالف خصومه في مسألة الصفات الإلهية، فهو يثبتها على حقيقتها مع التنزيه وعدم التشبيه؛ وهم يؤوّلون معظمها ويعطلونها ويحملونها على المجاز.

وخامساً: إن ما رواه ابن حجر هو مجرد ادعاء، يفتقد إلى الإسناد والتوثيق، وزعم لا يعجز عنه أحد.

وسادساً: إن مما يدل على أن تلك التهمة هي من أكاذيب خصوم ابن تيمية، وأنهم كانوا يكذبون عليه؛ أن ابن حجر ذكر أن هؤلاء قالوا عنه أنه كان يسعى إلى الإمامة الكبرى، لذلك كان يلهج بذكر المهدي ابن تومرت ويطريه [9]. وهذا كذب مفضوح، فكل من يدرس حياة شيخ الإسلام بن تيمية دراسة موضوعية، يتبين له أن الرجل ما كان يسعى لمنصب ولا لملك، وقد أمضى حياته من أجل الإسلام، ومات مسجوناً في سبيله. وأما ذلك الزعم فهو باطل بلا شك، لأن ابن تيمية قد تطرق كثيراً لابن تومرت في مصنفاته، وانتقده وذمه، ولم يطريه ولا أعجب به، فقال عنه: إنه كان من نفاة الصفات على مذهب الجهمية والمعتزلة، وموافقاً لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد في مجال الصفات. وقرنه أيضاً بأصحاب وحدة الوجود كابن سبعين وابن عربي الطائي، وأمثالهما من الجهمية [10]. وقال عنه: إنه أقام دولته على الكذب والاحتيال وقتل المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، وقد قتل من المغاربة ألوفاً مؤلفة بدعوى أنهم مجسمة ومشبهة [11]. فهل يصح بعد هذا أن يقال أن ابن تيمية كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه؟! أليس ذلك الزعم من أفضح الأكاذيب، وأن خصومه لا يتورعون من أن يكذبوا عليه أية كذبة للنيل منه؟.

والدليل الرابع هو أن سجن ابن تيمية بقلعة دمشق سنة 726هـ، لم يكن بسبب حادثة النزول التي ذكرها ابن بطوطة؛ وإنما كان بسبب سعي خصومه للكيد له والتخلص منه، وذلك أنهم وجدوا له فتوى قديمة - كتبها منذ سنين - موضوعها منع شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، فألّبوا عليه السلطان [12].

والدليل الخامس أن رواية ابن بطوطة ادعت أن قاضي الحنابلة وقف بجانب ابن تيمية، وسجن الرجل المالكي وعزّره، مما دفع بالمالكية والشافعية إلى الإنكار عليه. لكن هذا الإدعاء يبدو أنه غير صحيح لثلاثة أمور، أولها أن قاضي الحنابلة ابن مسلم لم يكن على وفاق مع الشيخ ابن تيمية، فهو الذي أصدر حكماً بمنعه من الإفتاء في مسائل الطلاق وغيرها مما يخالف مذهب الحنابلة [13].

وثانيها أن ذلك القاضي كان ورعاً عفيفاً، حسن السلوك محمود السيرة مجتهداً في فعل الخيرات [14] مما يدل على أنه من المستبعد جداً أن يقدم على ذلك الإجراء الظالم في حق الفقيه البريء ابن الزهراء، فيسجنه ويعزره، لأنه رأى منكراً فغيره بلسانه!.

وثالثها أن الرواية زعمت أن لقب القاضي الحنبلي هو: عز الدين، وهذا خطأ فإن لقبه الصحيح هو: شمس الدين، واسمه الكامل: أبو محمد شمس الدين بن مسلم الصالحي. وأما لقب: عز الدين فهو لقب القاضي محمد بن التقي سليمان (ت 731 هـ)، الذي تولى قضاء الحنابلة بعد ابن مسلم [15].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير