تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بل إن الصوفية الذين وافقوا القشيري في أن لفظة (تصوف) ليست مشتقة، لم يذهبوا إلى ما ذهب إلى الأخ د. لطف الله من "أن الصوفية لم يُعرفوا ولم يشتهروا بلباس الصوف"، مع أنه يحتج بهم في الأولى ولا يحتج بهم في الثانية، فهل هذا إلا تحكم وتناقض؟!

فقد احتج د. لطف الله بالإمام الهجويري في "مسألة عدم الاشتقاق" ووصفه بأنه قطب التصوف الفارسي، وأنه في ميزان الحقيقة الصوفية ثقيل. لكن –كما ترون- فإن الأخ د. لطف الله –وفقه الله- لم يعر هذا القطب الصوفي الثقيل أي ثقل –ولو بوزن الريشة- حين قرر في بابٍ كاملٍ أن عادة الصوفية وشعارهم لبس مرقعات الصوف، ولم يُبالي بهذا القطب الصوفي الثقيل، لأنه يُخالف رأيه هنا!

وكذلك نجد الإمام الصوفي مصطفى العروسي في كتابه (نتائج الأفكار القدسية في بيان معاني شرح الرسالة القشيرية) مع أنه لا يخالف القشيري في مسألة "عدم الاشتقاق" إلا أنه يرى أنَّ الصفا ولبس الصوف معاني "لا يخلو عنها الصوفي باعتبار رسمه وحاله".

فالذي خفي على أخي د. خوجة أن الذين ينازعون في اشتقاق التصوف من الصوف –وهم قلةٌ ولا دليلَ معهم إلا التهويل، وسيجري بيانه بإذن الله- لا يُنازعون في أن الصوفية عرفوا واشتهروا بلبس الصوف، وأن هذه هي عادة أغلبهم وظاهر حال أكثرهم.

هذه مجرد أمثلة قليلة أسوقها هنا خشية الإطالة والملل. وعدم معرفة وسماع د. لطف هذه النصوص أفضل من معرفته إياها، لأن لازم الأخير أشنع.

وبعد ما ذكرنا –في التعليق الأول- معنى قول القشيري في الاختصاص وقول أئمة الصوفية: بم أجاب د. لطف الله وفقه الله؟

قال -وهو لا يزالُ يصرُّ أن دليله من الواضحات-: (القشيري كلامه واضح، أي لم ينفردوا، فالاختصاص هو الانفراد، وفي اللغة: اختص بالأمر: انفرد به. وإذا انفرد قوم بأمر، فقد اشتهروا به قطعا، وإذا لم يختصوا به، لم يشتهروا به، فثمة علاقة لازمة بين الشهرة والاختصاص، من أنكرها فهو يجادل في الواضحات).

أقول: مثل هذا الكلام هو ما عنيته حين ذكرتُ أن في كلام أخي الدكتور إطلاقات غير محررة وغير علمية، فقد أوجب –سابقًا- التلازم بين نسبة التصوف للصوف وبين إسلاميته ومن عدم ذلك عدم الإسلامية، كما سبقَ أن أطلقَ أن أحداً لم يتعقَّب القشيريَّ فيما ذكره. وكل هذا غلط ينافي الحقيقة العلمية.

وهاهو هنا يقرر الملازمة بين (الشهرة) و (الاختصاص)، ففي رأيه أن من لم يختص بشيءٍ، فلا يمكن أن يشتهر به. و هو كلامٌ يبلغ الغاية في الغرابة والعجب!!

حسناً .. فلنتأمل في هذه الأمثلة:

عنترة اشتهر بالشجاعة، فهل اختص بها دون سائر البشر؟ حاتم اشتهر بالكرم، فهل اختص به دون سائر الخلق؟ إياس اشتهر بالذكاء، فهل اختص به دون سائر الناس؟ د. لطف الله اشتهر ببحثه في التصوف، فهل اختص بذلك دون سائر الناس؟

كل هؤلاء اشتهروا بخصالٍ عرفوا بها، وإن كان غيرهم يشاركهم فيها. فكذلك حين يقال: "إن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف"، فلا يلزم من هذا أن يكونوا مختصين به كما توهم أخونا الدكتور لطف الله. فحين يقول القشيري" "إن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف"، فلا يصلح أن يستنبط من كلامه "أنهم لم يشتهروا به ولا عرفوا به وأعرضوا عن لبسه، فلم يتميزوا به". خاصةً مع تقريرات علماء كثيرين جداً ذكروا شهرة الصوفية بلبس الصوف، وهذا الأمر ليس فيه خفاء حيث إن لباس الصوف ظاهرة يشاهدها الصوفي وغير الصوفي.

لقد كان عمدة كلام أخي د. لطف الله –وفقه الله- أن أحداً لم يتعقب القشيري وأنهم وافقوه على رأيه. وقد نقلت نصوصا عديدة –سابقًا ولاحقًا- في تعقبهم له، لكن د. لطف الله من رأيه أن تلك التعقيبات التي ذكرتُها لا تعدو أن تكونَ مناوشاتٍ وتعليقاتٍ وَجِلةً على استحياء لا ترتقي لمستوى النقد!!

حسناً؛ إن سلمنا جدلاً بذلك: فالمناوشة والتعليق الوَجِل، هل يصلح أن يكون دليلاً على قولك: "إنهم سكتوا ووافقوا على قوله"؟ هنا مشكلةُ فهمٍ ومنهجٍ. فالانتقاد الوجل الذي يأتي على استحياء، هل من الأنسب تصنيفه في خانة الموافقة أو المعارضة؟!

مشكلة منهجية أخرى: عند أخي د. لطف الله: فهو ينقل عن القشيري والهجويري إنكار نسبة التصوف إلى الصوف. ثم يقول: (لا مصلحة لهما من الإنكار، وهما عالمان بحالهم .. وهو من قبيل وشهد شاهد من أهلها).

حسناً؛ ماذا عن الآخرين الذين نسبوا التصوف إلى لبس الصوف؟ أليسوا عالمين بالتصوف؟ وهل لهم مصلحة في ذلك؟ وخصوصاً أن الذين ذكروا هذا علماء من داخل الدائرة الصوفية ومن خارجها مثل ابن تيمية وابن خلدون وغيرهم كثير.

مشكلة منهجية ثالثة: كنت أفهم من كلام د. لطف الله، أن التصوف فكرة واحدة غالية ليس فيها اعتدال. وأن من لم يصل لحد التصوف الغالي، فهو لم يتحقق بالتصوف، ولم يعرفه على حقيقته. لكني رأيته حين أراد أن يستدل بكلام القشيري والهجويري قال: (هما قطبان: القشيري قطب صوفية العرب، والهجويري قطب الفرس .. فكلاهما في ميزان الحقيقة الصوفية ثقيل .. ليس كقول أحدهم).

فنحن الآن نحتاج لمعرفة رأي د. لطف الله في مدى إحاطة هذين الإمامين الصوفيين بمعنى التصوف وحقيقته، حتى نعتمد كلامهما أو نسقطه. فإن كانا يعرفانه وهما لم يتحققا بالتصوف الفلسفي، فكلام لطف الله في تقرير أن التصوف لا اعتدال فيه كلام خاطئ. وإن كانا غير محققين له، فكيف يصح الاعتماد على كلامهما وجعله حجةً قاطعةً لأنهما قطبان في التصوف؟!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير