تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولولا منازعةُ أخي د. لطف الله في هذه النقطة، لما احتجت إلى سوقِ نصوص الصوفية وغير الصوفية التي تبين أن لبس الصوف من شعارات التصوف المعروفة. فقد نصَّ أعلام وأئمة المذهب على هذا المعنى، ونصوصُهم فيه أكثر من أن تحصر. فأبو نصر السراج نصَّ أنَّ لبس الصوف هو دأبُهم وظاهر لبسهم، وأبو بكرٍ الكلاباذي نصَّ أنَّ الصوف زيهم ولبسهم وسموا صوفية لذلك، وأبو علي الروذباري قال إنَّ الصوفي من لبس الصوف، وكذا الحكيم الترمذي بيَّن شهرة لباسهم الصوف، وكذا أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي من الصوفية الكبار، نصَّ أن لباس الصوف إحدى حقائق التصوف، وأنَّه ظاهرٌ عليهم ففارقوا به الناس فسموا به، وذكر أبو نعيم الأصبهاني أنَّ لباس الصوف هو اختيار الصوفية، ونصَّ أبو سليمان الداراني على أنَّ لبس الصوف علم من أعلم الزهد، وكذلك نصَّ السهروردي على أنَّ الصوف هو الغالب عليهم، وكذا عبدالغني النابلسي، .. إلى آخر هذه الأقوال الكثير.

بل إنَّ القشيري نفسه حينما ذكر الأقوال المشهورة في أصل التصوف وردها بسبب عدم استقامة الاشتقاق اللغوي، ثم لما جاء إلى قولِ من قال: "إن التصوف من الصوف" قال: (فذلك وجهٌ) وفي نسخة أخرى من "الرسالة القشيرية" قال: (ولذلك وجهٌ). وعلق عليه الشارح زكريا الأنصاري: (ولذلك وجه سائغ). فالقشيري وإن لم يوافق على أن اشتقاق التصوف من لبس الصوف، إلا أنه لم يجزم بالنفي، بل ذكر أن لتلك النسبة وجهاً.

ثم إنه حين لم يوافق على اشتقاق لفظة التصوف من لبس الصوف، لم يفعل ذلك لأجل أنه يرى اللفظة لفظةً أجنبيةً كما هو مذهب أخي د. لطف الله. بل لأنه يرى أن (هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياسٍ واستحقاقِ اشتقاقٍ). وأنتَ ترى أن هذا كلام لا طائل من تحته و لا محصل منه، وهو كلامٌ تهويليٌ ليس بعلمي، ولذا تعقبه الشارح الأنصاري فقال: (أنتَ خبير بأن شهرتهم لا تغني عن بيان اشتقاق اسمهم).

يبقى بعد هذا التعليقُ على قوله: إن (القوم لم يختصوا بلبس الصوف). وقد سبقَ أن بينتُ أن نفي الاختصاصِ لا يستلزم نفي الاشتقاقِ. إذ الكلامُ هنا عن الشهرةِ و السمة الغالبة على الصوفية، وليس عن ميزةٍ اختصوا بها دون سائر الناسِ. لأجل هذا تعقبه الأنصاري فقال: (هذا لا يضر، لأن الحكم للغالب، والغالب عليهم لبسه، والاكتفاء به، وإنما اختاروا لبسه). وتعقبه علي الهروي البسطامي حيث وافقه على تضعيف جميعِ الاشتقاقات العربية غير كلمة (الصوف)، ثم رد عليه في مسألة الاختصاص، وتعقبه شيخ مشايخ الطريقة الغنيمية أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، وتعقب هذا القول –أيضًا- صلاح الدين التيجاني.

وليس هؤلاء فقط هم من تعقب القشيري، لكني ذكرتهم على سبيل المثال، فابن خلدون المؤرخ لم يقل ما نقلتُه عنه سابقًا إلا ردًا على القشيري.

قال ابن خلدون: (قال القشيري رحمه الله: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه). قال معترضًا عليه: (هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم).

وكذلك أبو الفضل كمال الدين جعفر الأدفوي (747هـ) في كتابه (الموفي بمعرفة التصوف من الصوفي) فقد قال: (التصوف: وهو عبارة عن قصد طريق طائفة مخصوصة سُموا بالصوفية يُتَلَبَّسُ بها، فقيل فيه: إنه من باب تَفَّعُّل، إذا دخل في الفعل، كقولك: تقمص، إذا لبس القميص .. قال بعضهم: "نسبةٌ إلى لبس الصوف". وهذا صحيحٌ من حيث اللغة، واعترض القشيري عليه "بأن القوم لم يختصوا بلبس الصوف". ويجاب: بأنه الغالب).

وكذا الشيخ الصوفي سعيد محمد بن محمد الخادمي (1156هـ) في كتابه (بريقة محمودية) حيث إنه بعد إيراد قول القشيري أورد عليه قول من اعترض عليه من الصوفية، وأورد رواياتهم وآثارهم الدالة على أن الصوف هو لبسهم الذي به عُرفوا وبه اشتهروا.

وكذلك تعقب الصوفي المعاصر محمد إبراهيم محمد سالم في كتابه (كفاية المنصف في فهم التصوف) قول من نفى الاشتقاق من الصوف، ودلل على ذلك: (لاختيارهم لباس الصوف) وهذا هو الشاهد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير