" أرخ الأستاذ البحاثة عبدالقدوس الأنصاري مدينة جُدة بتاريخ قيم، استوفى فيه النواحي التي تهم القارئ، كما تجنب طريقة من يرى من المؤرخين حصر مهمة التاريخ في مجرد أداء ما وصل إلى المؤرخ كما وصل، دون نقد وتمحيص، ولذلك نرى عبدالقدوس الأنصاري يتعقب في هذا التاريخ كل ما يتنافى من كتابات من قبله مع الوضع اللغوي أو العقل أو الشرع أو التاريخ الصحيح، ولذلك ففي الكتاب شواهد كثيرة منها ما يلي:
1 - ذكر في ص38 ضمن الأقوال في ضبط جيم – جُدة – ضبطها بالكسر .. وتعقب ذلك بأن المعاجم اللغوية والتاريخية العربية أجمعت كلها على القول بضم الجيم، مع معرفة أصحابها وإيرادهم لصيغة جِدة المكسورة الجيم، والمقصود بها لغوياً الطريقة .. وقد وجدنا فيما وقفنا عليه من كتب "غريب الحديث" مثل ما نقله مؤرخ جُدة عن المعاجم اللغوية، ففي النهاية لابن الأثير، وتلخيصها: " الدر النثير" للسيوطي ما نصه: "الجُد بالضم شاطئ النهر والجُدة أيضاً، وبه سميت جُدة التي عند مكة ".
2 - ذكر في ص38 تعليل من علل تسمية جُدة بضم الجيم بأنها مدفن جَدة البشر حواء عليها السلام، واستبعد ذلك من ناحية الوضع اللغوي بأن ضم الجيم لا يتلاءم مع هذا التعليل، ومن الناحية الأخرى صرح بإبطال كون قبر حواء بجُدة، وهذا الموقف هو الذي سلكه كثير من العلماء منهم الشهاب الخفاجي في " شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل"، قال في الكلام على اسم "جُدة": العامة تفتح الجيم وتزعم أنه سمي بها؛ لأن حواء مدفونة بها، ولا أصل له كما صرحوا به، واستبعد الفاسي في " شفاء الغرام " ج1 ص88 كون قبر حواء بالموضع الذي يُدَّعَى أنه هو فيه بجُدة، قال: " وأستبعد أن يكون قبر حواء بالموضع المشار إليه؛ لأن ابن جبير لم يذكره، وما ذاك إلا لخفائه عليه، فهو فيما بعد رحلته من الزمن أخفى، والله أعلم ".
ومما يُشكك في دفن حواء بجُدة: ما ذكره ابن كثير في تاريخه " البداية والنهاية" ص98 قال: " ويُقال أن نوحاً عليه السلام لما كان زمن الطوفان حمله هو – أي آدم - وحواء في تابوت فدفنهما ببيت المقدس، حكى ذلك ابن جرير ".
وفي تاريخ ابن جرير الطبري ج1 ص109 ما نصه: وذُكر أن حواء عاشت بعده ـ أي بعد آدم عليه السلام ـ سنة، ثم ماتت رحمها الله، فدُفنت مع زوجها في الغار ـ يعني غار أبي قبيس ـ، وأنهما لم يزالا مدفونَين في ذلك المكان حتى كان الطوفان، فاستخرجهما نوح وجعلهما في تابوت، ثم حملهما معه في السفينة، فلما غاضت الأرض الماء ردهما إلى مكانهما الذي كانا فيه قبل ذلك".
ونقل الفاسي في " شفاء الغرام" من خط الذهبي في الجزء الذي ألفه في تاريخ مدة آدم وبنيه ج1 ص272 ما لفظه: " وخَلَفَه أي ـ آدم عليه السلام ـ بعده شيث ابنه، وأُنزلت عليه خمسون صحيفة، وعاش تسعمائة سنة، ودُفن مع أبويه في غار أبي قبيس".
وهذا الغار الذي ذكروا دَفن آدم وحواء فيه عليهما السلام، قال العلامة محمد جار الله بن ظهيرة القرشي المكي في كتابه: " الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف": إنه " لا يُعرف الآن".
3 - ذكر مؤرخ جُدة ص383 تعليل ابن المجاور ما ذكره من مضاعفة أجر الصلاة والصدقة في جُدة بوجود قبر حواء فيها .. وقد تعقب مؤرخ جُدة ذلك بالتشكيك في تلك الدعوى، وفي ذلك التعليل، فقال: " إذا كان أجر الصلاة والصدقة يُضاعف في جُدة، فلعل ذلك يعود إلى أنها دار رباط المسلمين، وثغر من ثغور الإسلام الأولى، وباب الحرمين الشريفين، للرباط فيها أجر كبير بالنسبة للرباط ذاته عامة، وبالنسبة للرباط بها من أجل حماية الحرمين الشريفين من تسرب عدوان أي أجنبي، ولا يمكن أن يُعزى ذلك إلى وجود قبرٍ مزعوم لحواء فيها! ".
وكاتب هذه السطور مع مؤرخ جُدة في تشكيكه في تلك الدعوى، وفي رده ذلك التعليل، ولا يُستبعد أن يكون مستند تلك الدعوى من قبيل الروايات التي توضع في فضائل البلدان، وتوسع المؤرخون في نقلها توسعاً انتقده كثير من العلماء؛ منهم الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة". قال: " قد توسع المؤرخون في ذكر الأحاديث الباطلة في فضائل البلدان، ولاسيما بلدانهم، فإنهم يتساهلون في ذلك غاية التساهل، ويذكرون الموضوع، ولا ينبهون عليه، كما فعل الديبع في تاريخه الذي سماه "قرة العيون بأخبار اليمن الميمون"، وتاريخه الآخر الذي سماه "بغية المستفيد بأخبار مدينة زَبيد"، مع كونه من أهل الحديث، وممن لا يخفى عليه بطلان ذلك، فليحذر المتدين من اعتقاد شيء منها أو روايته، فإن الكذب في هذا قد كثر وجاوز الحد. وسببه ما جُبلت عليه القلوب من حب الأوطان والشغف بالمنشأ" اهـ.
قلت: ومن هذا القبيل مما ورد في فضل جُدة: ما رواه ابن حبان عن علي مرفوعاً: " أربعة أبواب من أبواب الجنة مفتَّحة في الدنيا؛ أولها الإسكندرية وعسقلان وقزوين، وفضل جُدة على هؤلاء كفضل بيت الله الحرام على سائر البيوت"، وفي سند هذا الحديث الموضوع، عبدالملك بن هارون الكذاب .. قال الذهبي في الميزان: "السند إليه مظلم فما أدري من افتعله" اهـ.
وأما تعليل مؤرخ جُدة ذلك على فرض ثبوته بما علله به، فيقرب من قول ابن جُريج: " إني لأرجو أن يكون فضل مربط جُدة على سائر المرابط؛ كفضل مكة على سائر البلدان" رواه الفاكهي.
هذا ما أردنا أن نُمثل به، وهو قليلٌ من كثير مما في "تاريخ مدينة جُدة" من تحقيقات، تيقنا بالإطلاع عليها أن مؤرخ جُدة " عبدالقدوس الأنصاري" لم يحذُ حذوَ من يعتمد من المؤرخين على كل ما نُقِلَ، ولو كان جارياً مجرى الخرافات، وأنه قام بواجب التاريخ حق القيام، واللهَ أسأل أن ينفع بهذا الكتاب، إنه قريب مجيب ".
¥