ويؤيد صحة ما ذهب إليه أهل السنة ما قاله إمامهم سفيان بن عيينة رحمه الله: "كل شيء وصف الله به نفسه في كتابه" فلم يستثن رحمه الله أي صفة وردت في القرآن الكريم فكلامه يشمل كل صفة مذكورة في القرآن الكريم و لا يحتمل المقام التفريق بين صفة و أخرى لهذا قال بعض المحققين: "القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر" أي لا مجال للتفريق في حكم الإيمان بين صفة العلم و اليد بل كلها تُساق مساقا واحدا وهو إثبات المعنى الظاهر المفهوم وتفويض الكيفية، ومن الصفات المذكورة في القرآن الكريم: الحياة، والعلم، والإرادة، والقوة، والسمع، والبصر، والوجه، واليدين، والكلام، والرحمة، والغضب وغير ذلك كثير، ولا شك أن السلف الصالح أثبتوا صفة الحياة والعلم والإرادة وغيرها على معناها الظاهر من غير تمثيل ولا تكييف، فعلى هذا فكل صفة أخرى ذُكرت في القرآن الكريم تأخذ نفس الحكم , و من فرّق في الإيمان بين صفة و أخرى فهذا محض تحكّم و هوى لا دليل عليه من الكتاب و السنة أو من أقول سلف الأمة.
وبهذا التفصيل يتضح معنى قولهم "تُمر كما جاءت" و"قراءته تفسيره": أي على ظاهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تكييف
ومما يؤكد ذلك تفسير العلماء المتقدمين لها:
قال أبو منصور الأزهري (282 - 370 هـ) - بعد ذكر حديث أن جهنم تمتلئ حتى يضع الله فيها قدمه-: (وأخبرني محمد بن إسحاق السعدي عن العباس الدُّورِي أنه سأل أبا عبيدٍ عن تفسيره وتفسير غيره من حديث النزول والرؤية فقال: "هذه أحاديث رواها لنا الثقاتُ عن الثقات حتى رفعوها إلى النبي عليه السلام؛ وما رأينا أحدًا يفسرها، فنحن نؤمن بها على ما جاءت ولا نفسرها." أراد أنها تترك على ظاهرها كما جاءت.) (8)
وقال أبو سليمان الخطابي (388 هـ) في حديث النزول: (هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان مذهب السلف فيها الإيمان بها، وإجراءها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها.) ثم ذكر آثار السلف التي فيها "أمروها كما جاءت." (9)
وقال أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني (535 هـ)، وقد سُئل عن صفات الرب تعالى فقال: (مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد ابن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه، أن صفات الله التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله، من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيها، ولا تشبيه ولا تأويل، قال ابن عيينة: «كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره» ثم قال: أي هو على ظاهره لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل.) (10)
وقال الذهبي (748 هـ): (وكما قال سفيان وغيره "قراءتها تفسيرها"، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف. وهذا هو مذهب السلف مع إتفاقهم أيضا أنها لا تُشْبِه صفات البشر بوجه إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا في صفاته.) (11)
ومن المتأخرين محمد أنور شاه الكشميري (1352 هـ)، حيث قال في شرحه لسنن الترمذي المسمى "العرف الشذي": (قوله: «أمرُّوها كما هي ... الخ» أمرُّوها على ظواهرها.)
إضافة إلى أقوال أخرى للسلف والعلماء المتقدمين والمتأخرين في بيان عقيدة السلف الصالح، والتي سيُفرد لها مقال إن شاء الله.
معنى قول الإمام أحمد: "بلا كيف ولا معنى"
ورد أثر عن الإمام أحمد رحمه الله فيه أنه يقول: «"إن الله ينزل إلى سماء الدنيا"، أو «إن الله يرى في القيامة»، وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها بلا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئا منها ... » إلخ
وعلى القول بصحة هذه الرواية فإن معنى قوله رحمه الله: "ولا معنى" أنه لا معنى إلا ما ورد في ظاهر النص، ومما يدل على ذلك أنه ورد في لفظٍ آخر لهذه الرواية عند ابن بطة في كتابه "الإبانة الكبرى"، وعند ابن قدامة في كتابه "تحريم النظر في كتب الكلام" أنه قال: "بلا كيف ولا معنى إلا على ما وصف به نفسه تعالى."
ويدل على ذلك أيضا أن الإمام أحمد ذكر من ضمن الأحاديث حديث الرؤية، وهي من الأحاديث التي يثبتها السلف الصالح على ظاهرها من غير تكييف، ولا يؤمنون بمجرد لفظها دون معنًا يُفهم منه. وقد صرح الإمام أحمد في قول آخر له بالإيمان بحديث الرؤية على ظاهره، فقال:
¥