ثلاث مرات
فأشار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى ربه الذي هو فوق العرش استوى، وهو من فوق عرشه مطلع على خلقه، لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، وهو معكم أينما كنتم، وهذه كانت عقيدة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وعقيدة السلف أجمعين ليس بينهم مخالف، وحتى عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري، فالله فوق عرشه كما أخبر، وإذا قال: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) فإنه يعني مَن على العرش، لأن أعلى سماء العرش، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، ويعلم ما نحن عليه، يقلب القلوب من فوق عرشه، يدبر الأمر في خلقه من فوق عرشه، هو رب العالمين من فوق عرشه، يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من فوق عرشه، وهذه هي عقيدة أهل السنة
وأما الجهم بن صفوان فابتدع بدعة، وقال بأن الله في كل مكان، فالقول بأن الله في كل مكان عقيدة جهمية، وليست عقيدة سلفية.
فقرأ الجهم في القرآن لا ليسلم لكل ما ورد، فالمفترض أن المسلم يقرأ القرآن ليصدق خبره وينفذ أمره، لا ليأخذ من القرآن ما يوافق هواه، ومذهب الجهم هذا أدى إلى ظهور البدع في أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فتقديم العقل على النقل في باب الخبر يؤدي إلى ظهور بدع العقائد، وتقديم العقل على النقل في باب الأمر يؤدي إلى ظهور بدع العبادات، وكل الطوائف التي تفرقت وتحزبت ستجد أنها تحزبت إما بسبب تقديم العقل على النقل في باب الخبر، وإما بسبب تقديم العقل على النقل في باب الأمر.
فالجهم بن صفوان نظر إلى القرآن، فما ظن أنه يوافق رأيه من النصوص احتج به، وما ظن أنه يخالف مذهبه منها أنكرها وعطلها عن مدلولها، فوجد قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (الحديد:4) فأخذه حجة لرأيه في الحلول والاتحاد، وكذلك قوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:103)، فبنى عليه نفي صفات الله وتعطيلها، وأما الآيات التي تخالف مذهبه فسنرى ماذا فعل فيها.
قال أبو نعيم البلخي وكان قد أدرك جهماً: "كان للجهم صاحب يكرمه ويقدمه على غيره فإذا هو قد هجره وخاصمه فقلت له: لقد كان يكرمك، فقال: إنه جاء منه ما لا يتحمل، بينما هو يقرأ سورة طه والمصحف في حجره إذ أتى على هذه الآية: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) ..
هذه الآية معناها أن الله تعالى فوق العرش، وليس في كل مكان، فهذه الآية تعارض عقل الجهم بن صفوان، وعلى المسلم أن يُصدق خبر الله تعالى، فإن قيل كيف استوى؟، نقول: لا نعلم، فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت"، فلم نره، ولا يوجد له مثيل حتى نقول بأنه مثل فلان، فهناك كيفية لاستواء الله تعالى على عرشه، ولكن لا يعلمها إلا الله.
قال: "لو وجدت السبيل إلى أن أحكها من المصحف لفعلت"
فهذا هو تقديم العقل على النقل، بل إنه تقديس للعقل ومحو للنقل.
قال صاحبه: فاحتملت هذه، ثم إنه بينما يقرأ آية أخرى إذ قال: ما أظرف محمداً حين قالها.
فالجهم لما قال بأن الله في العالم كالروح في الجسد، وأنه في كل مكان وليس له ذات مستقلة فوق عرشه، بدأ ينفي أوصاف الله، وعنده خلفية من الجعد بن درهم، فنفى صفة الكلام عن الله، وقال بأنه لو كان متكلماً لكان له فم ولسان، وهذا كذب وكلام باطل، فالله تعالى يتكلم كما يليق بجلاله، ولا ندري كيف يتكلم، فنفى صفة الكلام، فقوله: "ما أظرف محمداً حين قالها" يعني أنه ينسب القرآن إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فيقول: (إن هذا إلا قول البشر)، والله تعالى قد توعد من قال ذلك فقال: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (المدثر:26 - 28).
فإذا كان الله لا يتكلم على حسب اعتقاد الجهمية، فالقرآن كلام من؟ قالوا: كلام محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مخلوق باتفاق، ووصف المخلوق مخلوق، فكلام المخلوق مخلوق وعزة المخلوق مخلوقة ... وهكذا، فهو بذاته وصفاته مخلوق.
فقالوا: "والقرآن كلام محمد، فالقرآن مخلوق "، فظهرت بذلك بدعة القول بخلق القرآن.
¥