بدأ الجهم بن صفوان في نشر آرائه في كل مكان، وظن أنه لما غلب السمنية بعقله أنه فعل ما لم يفعله أحد، فكانت فتنة، فقد أفحم المشركين بعقله، ولكن نصره هذا كان كارثة على المؤمنين، وانظر إلى المعتصم بن هارون الرشيد عندما آذى الروم امرأةً مسلمة في تركيا فقالت: وامعتصماه، فقال لها: لبيك يا أختاه، وحرَّك الجيوش الجرارة لنصرة المرأة المسلمة، وفي نفس الوقت يعذب الإمام أحمد حتى يقول بخلق القرآن.
فبدأ الجهم برأيه هذا ينشر فكره في الأمة، وانظر إلى ما فُتن به عندما ظن أنه نصر الأمة بهزيمته للمشركين بعقله، إذاً، لا يثق المرء إلا في الدليل والرجوع إلى الأصول وتقديم المنقول على المعقول، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، أما أن يأتي شخص ويقول لنا: خذوا من القرآن كذا، ولا تأخذوا كذا، نقول له: كلامك لا يلزمنا، فنحن نريد أن نتربى على أصول العقيدة، على أصول منهج أهل السنة والجماعة، فإذا علمت الشئ بدليله ستجد أن الكلام يقع على القلب والفطرة.
ذكرنا قبل ذلك قصة المرأة التي ذهبت لأبي حنيفة وقالت له: أنت تكلم الناس في الفقه، وأن يفعلوا كذا ولا يفعلوا كذا، فأين الله الذي تعبده؟، فخرج عليهم الإمام أبو حنيفة وقال: "إن الله فوق عرشه، وعلمه في كل مكان"، وصنف رحمه الله تعالى كتاباً سماه "الفقه الأكبر"، فالفقه الأكبر هو أن تتعلم أصول الدين، وسنتكلم في المحاضرة القادمة على المصطلحات التي أُطلقت على علم التوحيد، ومن ضمن هذه المصطلحات مصطلح "أصول الدين"، وأصول الدين هي أن ننظر إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أو مايسمى بالنقل أو الوحي أو السمع أو الشرع أو الخبر) فنصدق خبره وننفذ أمره، فأصول العقيدة هي تصديق الخبر وتنفيذ الأمر، فتصديق الخبر وضحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمصطلح الإيمان في حديث جبريل عليه السلام وهو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره.
وتنفيذ الأمر هو الإسلام وهو الأركان الخمسة التي وردت في حديث جبريل.
• كيف ظهرت المعتزلة؟ وقوة انتشار المدرسة العقلية
في أيام الحسن البصري رحمه الله تعالى – وهو إمام من أئمة السلف المعروفين – ظهر شخص اسمه واصل بن عطاء، وكان أحد تلامذة الحسن البصري، وكان مفوهاً وبليغاً، وكان عنده عيب في حرف الراء، فلا يستطيع أن ينطق بحرف الراء، فكان ينطق الراء غيناً، فمثلاً: عبارة "شراب بارد" ينطقها هكذا: "شغاب باغد"، فكان يحاول أن ينتقي الكلمات التي ليس بها حرف الراء، ويتكلم بمنتهى البلاغة والفصاحة، فكان يخلص كلامه وينقيه من حرف الراء لقدرته العجيبة على انتقاء الكلام حتى قال أحد الشعراء من أتباعه يمدحه:
عليم بإبدال الحروف وقامع .......... لكل خطيب يقلب الحق باطله
وقال آخر:
ويجعل البر قمحا في تصرفه ........ وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يُطِقْ مطراً والقَولُ يَعْجُلُه .......... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر
كان الحسن البصري رحمه الله تعالى بين طلابه في حلقته، فجاء إلى الحلقة رجل من عامة المسلمين وقال: يا إمام، ما تقول في مرتكب الكبيرة؟ هل هو مؤمن أم كافر؟
فقام واصل بن عطاء وقال: أنا أقول هو في منزلة بين المنزلتين (أي أنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر)
وهذا هو الأصل الثالث من أصول المعتزلة، فجعل واصل بن عطاء ذلك أصلاً، وألَّف فيه مجلداً كاملاً، فمرتكب الكبيرة في الدنيا عند المعتزلة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر.
فتكلم واصل بن عطاء بلا أدب ولا حياء بين يدي شيخه، وأجاب بإجابة عقلية وليست نقلية.
وأما الإجابة النقلية والتي كان من المتوقع أن يجيب بها الحسن رحمه الله تعالى هي أن مرتكب الكبيرة مسلم فاسق لا يخرج عن الملة، فمرتكب الكبيرة (كالزاني والسارق والمرتشي وقاتل النفس) مسلم، والحد يكفر عنه عقوبته، وإن تاب تاب الله عليه، وإن لم يتب فهو من المسلمين، في الآخرة تحت مشيئة الله، لأن الله تعالى قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء:48)، فطالما أنه مصدق بكلام الله تعالى، ويأتي إلى الأمر ويعصى، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وطهره ثم أخرجه من
¥