فإذا نظرنا إلى الجانب الآخر، فإن هذا الرجل لو كتبه الله من أهل النار وأطاع رب العزة والجلال، ثم عذبه الله تعالى لكان هذا ظلماً، إذاً من قال بأنه سيدخل النار ينفي الحكمة، لأن الحكمة تقتضي ألا يُعذَِّب أحداً إلا بذنب اقترفه، قال تعالى: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49)، فيجب أن تؤمن بأن الله حكيم وتؤمن بأنه قدير، فتجمع في إيمانك بين الحكمة والقدرة.
فأهل السنة يؤمنون بأن الله على كل شئ قدير، وبأن ما كتبه في اللوح المحفوظ سوف يتم، فالله تعالى حكيم لا يظلم أحداً من خلقه.
كيف نجمع بين الحكمة والقدرة؟
نرجع للسؤال الذي ذكرناه: إذا قدَّر الله تعالى على رجلٍٍ أن يكون من أهل النار، وأطاع هذا الرجل رب العزة والجلال طول الحياة، هل سيدخل الجنة أم سيدخل النار؟
الذي يُغلِّب جانب القدرة يقول: سيدخل النار، وأما المعتزلة فيقولون: هذا ظلم، وينفون التقدير السابق، فنفوا بذلك أصلاً من أصول الإيمان وهو الإيمان بالقضاء والقدر.
نقول: إن الذي سأل هذا السؤال قد أخطأ خطأً عظيماً، فمن أدراه بأن هذا الرجل من أهل النار؟ فقد يكون من أهل الجنة، لأن الله تعالى أخفى المُقدَّر الذي كتبه ولم يُظهره، فالقدر سر الله في خلقه، فلا نستطيع أن نقطع لإنسانٍ بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار، لأننا لم نطلع على ما في اللوح، والله سبحانه وتعالى من حكمته أخفى التقدير الأزلي، فلا يطلع عليه ملك مقرَّب ولا نبي مرسل، والإجماع على ذلك.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: "وأصل القدر سر الله في خلقه، لم يُطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً"، فلم يطلع أحد على ما في اللوح المحفوظ، حتى تصح الحكمة، فالإنسان ليس أمامه إلا أن يأخذ بالأسباب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "اعملوا، فكلٌ ميسر لما خُلق له".
وإذا قلت: إذا نزل أحد من بطن أمه، وكتب الله على وجهه "كافر بالله مهما أطاع"، هل يدخل الجنة أم النار؟
الإجابة هي: يدخل النار، ويكون هذا ظلماً، لكن لا ينزل أحد من بطن أمه وهو يعلم قدره، فلا يعلم الغيب إلا الله، فأخفاه الله تعالى في اللوح المحفوظ، فنؤمن بقدر الله ونعمل بشرع الله، ولذلك جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال "لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير". قال: ففيم العمل؟، فقال «اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)
فإذا أردت الجنة عليك أن تأخذ بالأسباب التي توصلك إليها، فأطع الله واستعن بالله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واسأله العصمة والتوفيق والهداية، وستدخل الجنة بإذن الله تعالى، ولا تشغل نفسك بما في اللوح، فلا نعلم ما في اللوح إلا بعد أن يقع،والذي يقع نقول فيه: قدّر الله وما شاء فعل، فنرضى بالمُقدَّر ونقول: نعتصم بشرع ربنا ونرجع إليه، ونستغفر الله من ذنوبنا إن عصينا، ونتمسك بالطاعة ونستمر على ذلك، ونسأل الله ذلك إلى أن نموت.
وسنأخذ في المحاضرة القادمة أن توحيد الألوهية يُسمى بـ"توحيد الشرع والقدر"، فلا بد أن نؤمن بقدر الله وأن نعمل بشرع الله.
وأما العدل عند المعتزلة فهو أنه ليس هناك تقدير، والعبد هو الذي يخلق فعله.
نقول: هم بذلك جعلوا خالقاً مع الله تعالى، فالعدل عند المعتزلة ليس عدلاً، وإنما هو قمة الظلم، فلا يريدون الإيمان بتقدير الله تعالى السابق، ولا يؤمنون باسمه القدير، ولا بصفة القدرة، فهم قدرية نفوا التقدير السابق.
وخرج في مقابل ذلك مذهب الجبرية الذين قالوا بأن الإنسان مسيَّر، فآمنوا بالقدرة ونفوا الحكمة.
أما أهل السنة والجماعة فقد آمنوا بتقدير الله وحكمة الله معاً، فهو القدير وهو أيضاً الحكيم، فآمنوا بجميع أسمائه وجميع أوصافه، فصدقوا الله في خبره ونفذوا أمر الله حين طلبه منهم، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
¥