. (والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتألف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم؛ لمَّا كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم؛ فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير؛ فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح) ..
.. (وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل؛ ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع؛ كما كثر القدر في البصرة، والتجهم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه).
ولهذا يرى هؤلاء أن أولى من ينطبق عليه هذا الحكم هم المنسوبون ـ بالتقليد ـ إلى بدعة الأشاعرة أو بعض البدع العملية كالموالد التي لا شرك فيها ولا غلو، ونحو ذلك مما انتشر في العالم الإسلامي ويرون في ذلك أشياء منها ما هو صحيح بل قطعي ظاهر ومنه ما هو محل اجتهاد بين أهل السنة قديما وحديثاً؛ فيرون أموراً:
1. أن ينصروا على من ظلمهم ولو من أهل الحق:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن رد على الجهمية في الفتنة (5/ 555): (وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كُلَّاب، وكان له فضل وعلم ودين. ومن قال: إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين ـ كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك ـ فهذا كذب عليه. وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين ردَّ عليهم؛ فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى. وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد في الردَّ على الجهمية؛ وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الَّذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن؛ ويستعينون بمثل هذا الكلام الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه. ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شرَّ منه، وهو خير وأقرب إلى السنة منهم).
2. أن يُستر ما لم يظهروه من المخالفات، ولا يُمتحنوا فيها:
جاء سير أعلام النبلاء 10/ 311 أن في قَامَ رَجُلٌ إلى البخاري، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ، مَخْلُوقٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يُجِبْهُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ: الْقُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَالامْتِحَانُ بِدْعَةٌ.
3. أن لا يُهجروا ولا يقاطعوا:
لا سيما في مواقع نفوذ هذه الفرق؛ كالذي ذكره الإمام ابن تيمية عن مواقع نفوذ البدع المنتشرة في زمنه، وكذلك في غيرها إذا كان ذلك يؤدي إلى مفسدة أعظم؛ كحمله على التعصب لطريقة قومه، أو بحثه عمن يعينه ويتواصل معه، أو تؤدي إلى قطيعة ومنافرة دون تحقيق مصلحة الهجر في حقه، وأن رعاية مصلحة التأليف مع هذا أظهر من مصلحة هجره.
وفد مضى نقل كلام العلماء في ذلك.
4. أن يُعاونوا في وجوه الخير؛ إذا لم يوجد أمثل منهم.
كدعمهم في مراكز ومدارس أسلامية لا يعلِّمون فيها البدعة، لاسيما في بلاد الكفر، وقد لا يعتنون بمذهب السلف، ولكنهم يحمون في هذا البلد هوية المسلم من الذوبان في الكفار، أو يُعنون بدعوة الكفار، ويرى آخرون أن يُكتفى بعدم عرقلة مشروعاتهم أو صد الناس عنهم، أو تنفيرهم منهم مع عدم وجود البديل.
¥