إن مجرد الاختلاف لا يسقط الدليل. بل يؤخذ برأي صاحب الدليل الأقوى، ولو كان كل خلاف بين الفقهاء يحكم بسببه على الحكم المستند للدليل بالإسقاط، لما استقام حكم شرعي إلا القليل.
واستدل أصحاب القول السادس بما يلي:
أولاً: حديث أنس بن مالك الكعبي: أن رسول الله ? قال: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام) (). قال عنه الترمذي: حديث حسن،
والعمل على هذا عند أهل العلم، أن الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما تفطران وتقضيان ().
وظاهر الحديث يقتضي أن يفطرا ويقضيا خاصة؛ لأن الصوم موضوع عنهما كوضعه عن المسافر إلى عدة أخرى، بينما ظاهر القرآن يقتضي في من أطاق الصوم أن يطعم ولا يصوم ().
ومعنى الحديث أنه وضع عن الحامل والمرضع الصوم ما دامتا عاجزتين عنه، حتى تطبقا فتقضيا.
الترجيح:
بعد استعراض آراء الفقهاء وأدلتهم يظهر لي أن الراجح هو وجوب القضاء فقط على الحامل والمرضع، دون الفدية؛ لقوة أدلة أصحاب هذا القول، وضعف أدلة أصحاب الأقوال الأخرى. وهذا في حال قَدِِرَتْ الحامل والمرضع على القضاء، فإن لم تقدر على القضاء وعجزت عنه، فإنه ينتقل إلى البدل، وهو الفدية عن كل يوم إطعام مسكين.
مع ملاحظة أنه ليس للحامل والمرضع أن تفطر إلا إذا لم تطيقا الصوم إلا بجهد ومشقة مضرة بهما، وكل من أطاق الصوم بدون مشقة تضر به فالصوم واجب عليه ().
الفصل الثاني
الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية للمرأة الحامل
المبحث الأول: نكاح الحامل من الزنا:
حكم الزواج بالزانية:
اختلف الفقهاء في حكم الزواج بالزانية على ثلاثة أقوال:
القول: إنه لا حرمة للزنا في وجوب العدة منه، سواء كانت حاملاً من الزنا أو حائلاً، وسواء كانت ذات زوج، فيحل للزوج أن يطأها في الحال، أو كانت خلية عن زوج، فيجوز للزاني وغيره أن يستأنف العقد عليها في الحال، حاملاً كانت أو حائلاً، غير أنه يكره له وطؤها في حال حملها حتى تضع. وهذا مذهب الشافعية ().
القول الثاني: إنه إذا كانت المزني بها غير حامل، صح العقد عليها من غير الزاني ومن الزاني، وأنها لا تعقد، وذلك اتفاقًا في مذهب الحنفية، فإن نكحها الزاني نفسه حل له وطؤها عند الحنفية اتفاقًا، والولد له إن جاءت به بعد النكاح لستة أشهر، فلو كان لأقل من ذلك لا يثبت النسب، ولا يرث منه، إلا أن يقول: هذا الولد مني، ولا يقول من الزنا، وأما إن كانت المزني بها حاملاً، جاز نكاحها عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لا يطأها حتى تضع ().
القول الثالث: إن الزانية لا يجوز نكاحها، وعليها العدة من وطء الزنا بالإقرار إن كانت حاملاً، ووضع الحمل إن كانت حاملاً، فإن كانت ذات زوج حرم عليه وطؤها حتى تنقضي عدتها بالإقرار أو الحمل، وهذا قول ربيعة والثوري والأوزاعي وإسحاق، وهو مذهب المالكية والحنابلة (). وتستبرأ عند المالكية بثلاث حيضات، أو بمضي ثلاثة أشهر (). وعند الإمام أحمد أنها تستبرأ بثلاث حيضات، ورأي ابن قدامة: أن يكفي استبراؤها بحيضة واحدة، وهو ما أيده ابن تيمية ونصره بقوة. واشترط الحنابلة شرطًا آخر لحل زواج بالزانية، وهو توبتها من الزنا ().
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، وهم الشافعية بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: ? وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ? [النساء: من الآية24] فهي على عمومها في العفيفة والزانية ().
مناقشة هذا الاستدلال:
إن عموم الآية يخصصه آيات وأحاديث أخرى حرمت نكاح الزانية. وأما اعتبار الحديث نصًا في عدم تحريم الزنا للنكاح، فإن النص عند الأصوليين، هو اللفظ الذي يدل على معناه المقصود أصالة من سوقه مع احتمال التأويل (). فهل سيق هذا الحديث على معناه المقصود أصالة؟ ليس هناك دليل على ذلك.
ثانيًا: أنه منتشر في الصحابة بالإجماع، فقد روي ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وجابر رضي الله عنهم، فقد روي عن أبي بكر قوله: "إذا زنى رجل بامرأة لم يحرم عليه نكاحها" ().
مناقشة هذا الدليل:
¥