تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فمن يقدم بعد هذا على تقديم قول إمام ـ مالك أو غيره ـ على سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ ولهذا احتاط الأئمة في هذا الأمر وأوصوا كلهم من أخذ عنهم أن يأخذ بالحديث إذا خالف قولهم؛ كما تجد ذلك عنهم بأسانيدهم في جامع بيان العلم لابن عبد البر وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني والأحكام لابن حزم، وغيرها من الكتب التي ألفت في موضوع مخالفة المقلدة للسنة لأجل المذهب؛ بل بلغ الأمر بالإمام مالك في هذا الموضوع أن أبا جعفر المنصور أراد أن يحمل الناس على رأي مالك، ويلزمهم باتباع ما في المرطأ من فقه فقال: لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه. وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث لابن الصلاح: وقد طلب المنصور الإمام مالك أن يجمع الناس على كتابه، فلم يجبه إلى ذلك، وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف، وقال: إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها. ولما ذكر الشعراني هذه القصة في الميزان 1/ 35/ قال عقبها: فانظر يا أخي إن كنت مالكيا إلى قول إمامك فكيف يجوز بعد هذا القول من مالك أن يلزم المقلدة الناس باتباع قوله، والتزام مذهبه. وقد قال ابن عبد البر لم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى صحة خلافه بل المنقول عنهم تقريرهم الناس على العمل بفتوى بعضهم بعضا لأنهم كلهم على هدى من ربهم؛ وقال أيضا: لم يبلغنا في حديث صحيح ولا ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أحدا من الأئمة بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه؛ انظر الميزان للشعراني1/ 33/.

فالتزام مذهب معين وإلزام الناس بالتدين به في جميع مسائله وفروعه، سواء صح دليلها أو لم يصح؛ من أقبح البدع التي ظهرت في الإسلام؛ وشر ما حدث في الأمة من المنكرات، لأن ذلك يدعو أولا إلى ترك السنة وإماتتها عمدا كما حصل من المقلدة، وذلك كفر صراح بواح يوجب اللعنة كما ورد في الحديث " ستة لعنتهم وكل نبي مجاب .. فذكر منهم: التارك لسنتي" ويدعو ذلك ثانيا إلى إبطال فرض من الفروض الواجبة في كل عصر وهو الاجتهاد فيما ينزل بالناس من النوازل التي تحتاج إلى ما يتعلق بها من حكم الشرع فيها؛ فما بلد الأفهام وصرف العقول عن الغوص في الكتاب والسنة لاستخراج أحكام ما يجدّ من أحداث وحواديث إلا التقليد الأعمى الذي اعتنقه المقلدة وجعلوه دينا لجهلهم؛ ونكوصهم عن الهمم العالية؛ والأمر لله تعالى. ولم يخترع القول بإلزام الناس بمذهب معين، ودعا إليه بعض حكام عصره إلا عبد الله بن المقفع المجوسي الأصل الذي قال فيه ابن مهدي ما رأيت كتابا في الزندقة إلا وأصله من ابن المقفع؛ انظر البدايةوالنهاية 10/ 96. ولعله وضع هذا القول ليصد الناس عن اتباع الإسلام الذي جاءت السنة بأحكامه وبيان أصوله وفروعه، ـ لا كان الله له ـ وقد قتل شر قتلة، والعياذ بالله جزاء له من الله تعالى على ما اخترع وافترى من حمل الناس على مذهب معين، سواء كان قول ذلك المذهب موافقا للحق والصواب أو مخالفا له.

ومنذ ظهر هذا القول الباطل، والعلماء يصنفون الكتب في رده وإبطاله وبيان فساده، وإن العمل به يؤدي إلى ترك الكتاب والسنة، ويسد باب الاجتهاد الواجب في كل عصر وزمان، وقد ألف الحافظ السيوطي في هذا كتابا قيما سماه: (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) وقد طبع مرتين. كما تناول الرد على الالتزام بمذهب معين ابن عبد البر وهو من أئمة المالكية في كتابه (جامع بيان العلم)، وابن القيم الجوزية في (أعلام الموقعين) وأبو شامة في كتابه (المؤمل في الرد إلى الأمر الأول) وهو في غاية الإفادة، يجب على المسلم المتحرر من ربقة الجمود أن يكون ملازما لقراءته مجتهدا في حفظه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير