[أثر ترك الدليل على الفقه المذهبي]
ـ[عبد القادر بن محي الدين]ــــــــ[28 - 01 - 08, 09:45 م]ـ
[أثر ترك الدليل على الفقه المذهبي]
إن معظم الشروح التي كتبت على المصنفات لا تتوفر على شيئ من الأدلة غالباً ,
وإن كان بعض المصنفين ومنهم ابن أبي زيد القيرواني – رحمه الله – قد حاول
بناء رسالته على كثير من النصوص المقتبسة من السنة , كما أن بعض من
شرحوا كتابه كأبي الحسن – رحمه الله – كثيراً ما يوردون الدليل للأقوال
الرئيسية , لكن على وفاق المذهب غالباً , وقد يوردون المعارض ويرجحونه.
لقد كان هم الشارحين حل ألفاظ المصنفات , وذكر ما في المسالة من أقوال في
المذهب , وبيان الراجح من المرجوح , والمشهور من الشاذ , ولعلّ بعضهم كان
يستعظم أن يذهب للبحث عن دليل لما قاله العلماء ثقة منه بهم , فكان تفريطاً ,
أدّى إلى نتيجتين كلاهما شر:
الأولى: ترك المتأخرين للنصوص , والإعراض عنها كلية في الدروس , بحكم
الاعتياد , حتى غدوا ينظرون إلى من يذكر شيئاً منها نظرة ريبة , فانفصل الفقه
عن معينه الذي لا حياة له بدونه , وهو فقه الكتاب والسنة.
والثانية: عزوف بعض الناس عن هذه المصنفات , وعلى هذا معظم الشباب
اليوم , مع ما فيها من علم غزير , هم في حاجة إليه بلا شك , لظنهم أن ما فيها أو
معظمه باطل , على أن ما تميزت به بعض المصنفات من تعقيدات لفظية ,
واصطلاحات كلامية , واختصار شديد كان من عوامل صرف الناس عنها.
ومن الجائز , بل المتعين لمن كان أهلاً , بيان خطإ العالم , في رفق وأناة , وقد
كان العلماء ينهون أن يأخذ عنهم من لم يعلم من أين أخذوا , ثم ليعلم أنه لا تلازم
بين احترام العالم وإن تعدد لا يسلبه وصف العلم , وأن مراجعته ليس عليه فيها
نقص , ولا على المراجع ضير.
وحسبنا أن الصحابة كانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل
التي تثور في رؤوسهم بسبب شبهة , فغن عائشة رضي الله عنها لما سمعت
حديث: " ليس أحد يحاسب إلاَ هلك " , قالت يارسول الله جعلني الله فداك:"
أليس يقول الله عزوجل: " فأما من اوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً
يسيراً " , قال صلى الله عليه وسلم " ذاك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب
هلك " (راجع كتاب التفسير من صحيح البخاري: سورة إذا السماء انشقت).
وكما قال عمر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب القتلى الذين ألقوا في
قليب بدر:" يارسول الله , ما تخاطب من قوم قد جيفوا ? فقال:" والذي نفسي
بيده ما أنتم باسمع لما أقول منهم , ولكن لا يجيبون ".
وقد وهمت عائشة – رضي الله عنها – ابن عمر في روايته تلك المخاطبة , اعتماداً
على قوله تعالى: " فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء " راجع تفسير ابن كثير.
نعم إن المراجعة للعالم لا ينبغي أن يكون الدافع إليها التعنّت والتعصّب , والمراء ,
بل التفقه والتعلم , ولذلك قال علي بن أبي طالب لابن الكواء , وقد لا حظ عليه
التعنّت في سؤاله:" ويحك سل تفقهاً ولا تسأل تعنّتاً " , ونفى عمر صبيغاً لما
علم منه ذلك.
لكن الذين اكتفوا بشرح المصنفات , وجمع الأقوال المجردات , وإنما قصدوا حفظ
الأقوال وجمعها , وهو أمر حسن ومطلوب , إذا لم يتجاوز به حده , وهم لم يريدوا
بما قاموا به من أعمال أن يطعنوا في توحيد المتابعة لصاحب الشريعة صلى الله
عليه وسلم حتى تنصب أقوالهم في مقابل سنته التي لا حجة لمن خالفها.
يقول الشيخ العلامة البشير الإبراهيمي – رحمه الله - وهو يعرض بعض ما أنجزته
جمعية العلماء في الميدان العلمي:" إن أكبر ميزة يمتاز بها هذا الطور الذي نحن
فيه من أطوارنا العلمية هي الاستدلال , فلقد كان العلم إلى ماقبل النهضة مباشرة
عبارة عن أقوال يسلمها الشيخ لكتابه , ويسلمها التلميذ لشيخه , فإذا استقامت
تراكيب الكتاب وأفادت معنى صحيحاً لم يكن في ذهن الشيخ قوة على التماس
الدليل ولم يكن من حق التلميذ أن يطالبه بالدليل , , , " (آثار البشير الابراهيمي).
وقال رحمه الله:" ولقد كان التسليم أصلاً من أصول الأدب في جميع ما يعمُر
مجالسنا العلمية من الأحاديث , وإن هذا لهو المنفذ الواسع الذي دخلت علينا منه
الخرافات , والأحاديث الموضوعة والمبالغات السخيفة , والآراء المضطربة ,
¥