تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فمن الفقهاء من فهموا عدم لزوم الترتيب، فلو بدأ المتوضىء بغسل الرجلين، و انتهى بمسح الرأس مثلا صح وضوؤه، لأن العطف بالواو لا يدل لغة على الترتيب في الحدوث. فإذا قيل: جاء زيد و عمرو و صالح. لا يفيد هذا أيهم جاء قبل الآخر، و لا أنهم جاؤوا منفردين أو مجتمعين، فإذا أريد إفادة الترتيب و جب العطف بالفاء، فيقال عندئذ: جاء زيد فعمرو .. و إلى هذا ذهب فهم الإمام أبي حنيفة-رحمه الله تعالى.

و منهم من فهم من نسق البيان لزوم الترتيب، لصحة الوضوء، لأنَّ ذكر مسح الرأس فاصلا بين أعضاء ذكرت قبله و بعده كلها مغسولة، يدل على قصد الترتيب، و إلى هذا ذهب فهم الإمام الشافعي-رحمة الله تعالى.

و لنأخذ مثالا آخر من المعاملات قول القرآن العظيم:) يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... @ و إن كنتم على سفر و لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة .. (

فهل وصف الرهن بأنه مقبوض يفيد وجوب قبض المرهون ليصح عقد الرهن، فإن لم يقبض في مجلس العقد كان باطلا، لأن الرهن بلا قبض يفقد غايته التوثيقية؟ إلى هذا ذهب فهم أبي حنيفة-رحمه الله تعالى.

أو أن هذا الوصف لا يفيد اشتراط القبض لصحة العقد، فينعقد الرهن دون قبض المرهون، و للمرتهن مطالبة الراهن بتسليمه، كما يطالب المشتري البائع بتسليم المبيع، و المستأجر بتسليم المأجور.

إلى هذا ذهب فهم الإمام مالك-رحمه الله-.

فمن الذي يستطيع الحجر على فكرة فقيه أن يفهم من النص التشريعي فهما يراه هو الصواب خلاف ما يفهمه غيره؟ هذا مستحيل.

ثانيا: اختلاف الفقهاء سعة و رحمة:

هل ذا الحجر-لو أمكن، ووحدة فهم الفقهاء في تفاصيل الأحكام الاحتمالية و تفرعاتها- هو الفضل و الأصلح في ظل النظم التشريعية و نصوصها؟ بمعنى أن اتفاق آراء الفقهاء التشريعين في كل صغيرة و كبيرة من المسائل الأساسية و الفرعية هو خير للأمة؟

إن الخير و الأفضل هو خلاف ذلك قطعا، أي: هو في اختلاف فهومهم و اجتهاداتهم؛ لأن هذا الاختلاف في الفهم و الاستنتاج من النصوص يوجد في الأمة ثروة من الفكر التشريعي هي محل اعتزاز و امتياز للأمة، و يوجد لديها من مختلف مبادىء و القواعد و الأنظار الفقهية و النظريات و الحقوق أسسا صالحة لحل المشكلات العارضة باختلاف الظروف، و يفتح مجالات واسعة لاختيار الحلول الأفضل كلما دعت الحاجة، و أظهر التطبيق بعض المشكلات، أو كشف عن بعض الفجوات التي تحتاج إلى ملء بأحكام مناسبة مستمد من روح النصوص و غرض الشارع.

ففي نظم الأحوال الشخصية (أحكام الأسرة) الحديثة في البلاد العربية و أحكامها، التي يجب أن تستمد من فقه الشريعة لصلتها بالعقيدة الإسلامية في الحلال و الحرام، أقيمت قواعد و أحكام حُلت بها مشكلات، و تحقق بها إصلاح كبير في حياة الأسرة الإسلامية، و لولا اختلاف المذاهب الفقهية التي استمدت منها الأحكام لما كان إليها من سبيل (مثل مشكلة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، و مشكلة تعليق الطلاق المستعمل استعمال اليمين للحث أو المنع، و مشكلة ابن المحروم في الميراث التي عولجت بطريقة الوصية الواجبة المقررة في بعض المذاهب الفقهية).

و في مجال العبادات و أحكامها التفصيلية يعطي اختلاف المذاهب الاجتهادية كل مكلف فسحة كبيرة تيسِّر له طاعة ربه، فتدفع عنه مشقات يعرفها الممارسون من أهل العلم، مثل الاختلاف في بعض نواقض الضوء كخروج الدم و لمس المرأة، و كالمسح على الجوربين في الوضوء (و لا سيما في الشتاء) و مثل ذلك في المعاملات كثبوت خيار العيب للمشتري إذا أخفى البائع عيبا في المبيع عمدا و تدليسا، و اشتراط البراءة من المسؤولية عن العيب؛ مما يجعل العاقد مسؤولا عن الغش المتعمد رغم كل اشتراط يعفيه (و هو النظر السائد في القانون الوضعي أيضا).

و هذا مجمل و معنى ماورد في الأثر: " اختلاف أمتي رحمة" و هو نص حديث نبوي ضعيف الثبوت، لكنه صحيح المعنى، و المراد به الاختلاف في الفروع، أي: في مسائل الفقه العملية، أما الاختلاف في أصول الدين و العقائد فهو مصيبة تمزق الأمة، كما أوضحه الإمام المناوي و غيره (ينظر فيض القدير شرح الجامع الصغير تحت الحديث 288) فمن الخير و النعمة هذا الاختلاف الفقهي الذي أورثنا تلك الثروة الفقهية الهائلة، متعددة الآراء، و جمة العطاء.

ثالثا: بين توحيد الاجتهادات و توحيد الحكم القضائي:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير