و هنا يجب الانتباه إلى أمر عظيم الأهمية، و هو التمييز بين توحيد الفقه و توحيد الحكم القضائي، فإذا كان توحيد الفقه مستحيلا، و ليس من مصلحة الأمة، فإن توحيد الحكم القضائي فيها ضروري، و نعني بتوحيد الحكم القضائي وحدة التقنين من الفقه، و ذلك بأن يختار في كل مسألة من مسائل المعاملات من بين الآراء الفقهية فيها-إذا كانت متعددة-ما هو أصلح أو أعدل أو أوجه دليلا أو أيسر تطبيقا، فتقننه السلطة المختصة حتى يكون هو وحده النافذ المعمول به في القضاء.
فهذا التدبير النظامي في أحكام المعاملات بغية توحيد الحكم القضائي فيها هو واجب في طريق إقامة النظام و تحقيق العدل، و لا يتنافى مع تعدد الآراء و المذاهب الفقهية مهما كثرت و اختلفت.
و ذلك كما حصل في وضع مجلة الحكام العدلية في أواخر عهد الدولة العثمانية، حيث اختير أحسن الآراء الفقهية المختلفة من المذهب الحنفي، و صيغت في مواد متسلسلة، و أصدرت سنة 1293هـ فكانت أول قانون مدني مستمد من الفقه الحنفي، و أصبح بها القضاة و المتقاضون جميعا في الدولة أمام حكم إلزامي واحد في كل مسألة من المسائل و القضايا التي تناولتها المجلة بالتقنين، مهما كانت الآراء في مصادرها الفقهية متعددة و مختلفة.
فلا يجوز أن يترك القاضي لاجتهاده بين الآراء الفقهية المختلفة ليختار هو منها ما يقضي به، لأنَّ هذا الإطلاق يتنافى مع مبدأ علنية الشرائع الذي يوجب أن يكون الملكف في كل مجتمع نظامي (دولة) على علم مسبق بمصير أعماله و تصرفاته في حكم النظام الذي سيقضي به القاضي له أو عليه، و إلا كان القضاء فوضى، و المكلف لا يعرف كيف يتصرف مطيعا للنظام، لأنه لا يستطيع أن يتنبأ مسبقا بموقف القضاء من تصرفاته مادام القاضي سيقضي باجتهاده هو و اختياره، و ليس بحكم معلن معروف، فإذا كان اختلاف الفقهاء رحمة و نعمة و ثروة و مزية، فإن عدم توحيد الحكم القضائي مصيبة و بلية!!
هذا، و إن اختيار بعض الآراء الفقهية في وقت ما لتقنينه و توحيد الحكم القضائي عليه لا يمنع تغير هذا الاختيار، و استبدال غيره به من الآراء الفقهية الأخرى كلما تبدلت الظروف و الحاجة، أو رؤي غيره أصلح منه.
و هكذا تتحقق للأمة مصلحتان: توحيد الحكم القضائي و هو أمر ضروري، و الاستفادة من جميع المذاهب الفقهية.
و هذا الأمر-أعني: تقنين الفقه و توحيد الحكم القضائي فيه من بين مختلف الآراء الفقهية- موضوع عميق و ذو ملابسات تعصبية، فبعض العلماء لا يقبلونه، و يريدون إطلاق الاجتهاد للقاضي في أحكامه دون مبالاة بمحاذير هذا الإطلاق، و منافاته لمبدأ علنية النظام و وقواعده، و مجال القول في هذا الشأن واسع، فأكتفي بهذه الإشارة.
و ظني أن السائل الكريم عن (العراقيل) التي تحول دون توحيد الفقه، إنما يقصد توحيد الحكم القضائي الذي أشرنا إليه، لا توحيد الفقه الذي معناه منع اختلاف الفقهاء في الرأي الاجتهادي، و لكنه أخطأ التعبير السديد عن مراده.
و إذا صدق ظني هذا في مراد الأخ السائل فجوابي عندئذ أن العائق الأساسي الذي يحول دون توحيد الحكم القضائي عن طريق تقنين موحد لأحكام المعاملات يختار فيه أحسن الآراء الفقهية من مختلف المذاهب، أقول: إن العائق الذي يحول دون ذلك أمران:
الأول: هو التعصب المذهبي في بعض البلاد؛ الذي ساد فيها أحد المذاهب و حجب عنها مزايا المذاهب الأخرى، فصارت دراسة الفقه مذهبية لا مقارنة.
الأمر الثاني: اتجاه فريق من المسؤولين و المثقفين ذوي النفوذ في بلاد عربية أو إسلامية أخرى ممن عمل فيهم الغزو الفكري الأجنبي عمله، فجهلوا و احتقروا قيمة تراثهم الفقهي المنقطع النظير، و يريدون تقنينا أجنبيا، إذ يرون أن كل تقليد للغرب، أو استمداد من حضارته الأجنبية في المظهر أو في الجوهر الحضاري هو عنوان التقدمية، و هذا نتيجة بعدهم عن الإسلام علما و عاطفة و صبغة حضارية، و هذا السبب نسميه: الاستغراب.
ـ فأما السبب الأول (التعصب المذهبي) فهو بحمد الله في هذا العصر آخذ في الاضمحلال، إذ أصبح الانفتاح على المذاهب الفقهية جميعا من سمات الفقيه المعاصر النَّير، و محلا للتقدير.
و الموسوعة الفقهية التي يقوم بها اليوم مشروعان اثنان أحدهما في الكويت، و الآخر في مصر، و يعرض فيها فقه المذاهب مرتبا بالترتيب الألفبائي المعجمي بحسب أوائل حروف في عناوين الموضوعات و المسائل، لتسهيل مراجعته لكل طالب هي من ثمار هذا الانفتاح الفقهي، فالموسوعة الفقهية تقوم بتعبيد الطريق إلى توحيد الحكم القضائي بتقنينٍ موحد للبلاد العربية، كما سبقت الإشارة إليه.
ـ و أما السبب الثاني و هو الاستغراب فعلاجه أن يوضح للمسؤولين و سائر المستغربين قيمة تراثهم الفقهي و أصالته و سعته و سموه و دقته و امتيازه حتى يدركوا قيمته، و يتجهوا إليه، نتيجة لشعورهم بشخصيتهم الحضارية المستقلة، و يأنفوا من التبعية التي تذيبهم، و على علماء الإسلام و فقهائه أن يبرزوا لأعينهم صور هذا التراث الإسلامي الرائعة، بالأسلوب و الطريقة و اللغة التي يستطيعون فهمها. و هذا لشعور قد ظهرت بوادره- و الحمد لله- أيضا نتيجة للكوارث التي لحقت بالبلاد العربة و الإسلامية و أهلها من جراء تلك التبعية الحضارية للطامعين ذوي الأهداف الاستعمارية.
و من بوادر هذا الشعور أن الدائرة القانونية في جامعة الدول العربية تقوم اليوم بإعداد مشروع قانون مدني موحد للبلاد العربية على أساس الفقه الإسلامي بناءًو جوهرا، و بالأسلوب القانوني الحديث شكلا، و الوفاء بحاجات العصر المستجدة مضمونا.
و قد ألفت فيها لجنتان لهذا العمل: لجنة عامة، و لجنة خبراء خاصة تضع نصوص المشروع و مذكراته الإيضاحية، و هي تتابع عملها في دورات. و كاتب هذا الجواب من أعضائها.
و الله سبحانه هو الموفق الهادي إلى سواء السبيل، هو حسبنا و نعم الوكيل.