استُدل لهذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والأثر والإجماع والمعقول:
أولاً: من القرآن الكريم:-
(1) قول الله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَجِلِك وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا) (20).
قال مجاهد - رحمه الله - في قوله تعالى: (بِصَوْتِكَ) هو الغناء والمزامير واللهو (21).
وجه الاستدلال: أن الغناء والمزامير هما صوت الشيطان لإضلال الناس، فيكون الاستماع إليهما محرماً.
واعتُرض عليه: بعدم التسليم أن صوته الغناء، فإنه ليس موضوعاً له فينصرف إليه، ولا دليل عليه، وما قاله مجاهد معارض بمثله، فالمنقول عن ابن عباس أن معنى قوله تعالى: (بِصَوْتِكَ) بدعائك إلى معصية الله تعالى (22).
ويُجاب: أنه إذا كان صوته دعاؤه إلى المعصية، فإن الغناء والمعازف من المعاصي، فيكون ذلك داخل في كلام ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(2) قول الله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (23).
وفَسَّرَ عدد من الصحابة (لَهْوَ الْحَدِيثِ) بالغناء (24)، وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: "لهو الحديث المعازف والغناء" (25).
واعتُرض على الاستدلال بالآية هنا بما يلي (26):
الاعتراض الأول: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويُجاب: بأنه لم يذكر أهل العلم - فيما أعلم - غير تفسير الصحابة فمن بعدهم، ولم يذكروا تفسيراً للنبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، وقول الصحابي حجة إذا لم يخالفه غيره من الصحابة، ولم أجد للصحابة تفسيراً مخالفاً لما ذكرته (27).
الاعتراض الثاني: أنه قد خالفهم غيرُهم من الصحابة والتابعين.
ويُجاب: إنَّ تفاسير الصحابة لا تخرج عمَّا ذكرنا، وأقوالهم مُقَدَّمَة.
ثانياً: من السنة النبوية:-
وهي أحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها:
الحديث الأول:
قوله صلى الله عليه وسلم: (ليكوننَّ من أمتي أقوام يَسْتَحِلُّون الحِرَوالحرير والخمر والمعازف ... ) (28).
قال ابن القيم- رحمه الله تعالى -: "المعازف آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك" (29).
وجه الاستدلال: يخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في أمته من يستحل المحرمات، ومنها المعازف، وقد قرن صلى الله عليه وسلم استحلال المعازف باستحلال الخمر والزنا، فدل على شدة التحريم، ولو كانت المعازف مباحة لما قال صلى الله عليه وسلم: (يستحلون) إذ الحلال لا يحتاج إلى استحلال.
الاعتراضات التي أُورِدَت على الاستدلال بهذا الحديث:
الاعتراض الأول: ذكر ابن حزم: أن الحديث سنده منقطع.
وذلك أنه لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد (30) (31).
كما أن الحديث لم يورده البخاري مسنداً، وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار (32): حدثنا صدقة بن خالد، فهو منقطع.
الجواب على هذا الاعتراض:
أما دعوى ابن حزم بانقطاع ما بين البخاري وصدقة فهو وَهْم منه.
قال في عمدة القارئ: " وهِمَ ابن حزم في هذا، فالبخاري إنما قال: قال هشام بن عمار: حدثنا صدقة، ولم يقل: قال: صدقة بن خالد" (33).
وأما كون البخاري لم يورده مسنداً إلى هشام فأُجيب عنه من أوجه: (34)
الوجه الأول: أن تعليقات البخاري المجزوم بها صحيحة، وهذا منها.
الوجه الثاني: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمِع منه، ولو سلَّمنا أنه لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنه حدَّث به، فالبخاري أبعد الخلق من التدليس.
الوجه الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الوجه الرابع: أننا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً، فالحديث صحيح متصل عند غيره (35).
الاعتراض الثاني: أن في إسناد الحديث صدقة بن خالد، ضعَّفه أحمد ويحيى بن معين وغيرهما (36).
وأُجيب عنه: بأن صدقة بن خالد هذا ثقة، وثَّقه جماعة، منهم أحمد وابن معين، وهو من رجال الصحيح، وإنما قال يحيى وأحمد ذلك في صدقة بن عبد اللهوهو أقدم من صدقة بن خالد (37).
الاعتراض الثالث: أن الحديث مضطرب سنداً ومتناً.
¥