واحتج ابن حزم بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن نافع أنه قال: "سمع ابن عمر مزماراً، قال: فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأىعن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال: فقلت: لا! قال: فرفع أصبعيه منأذنيه، وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع مثل هذا! فصنع مثل هذا"قال ابن حزم تعليقاً على الحديث: "لو كان المزمار حراماً سماعه لما أباح صلى الله عليه وسلم لابن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حراماً سماعه لما أباح لنافع سماعه ولأمر رضي الله عنه بكسره ولا بالسكوت عنه، فما فعل رضي الله عنه شيئا من ذلك، وإنما تجنب رضي الله عنه سماعه كتجنبه أكثر المباح من أكثر أمور الدنيا كتجنبه الأكل متكئاً ... " (المحلى 9/ 62).
واستدلوا ببعض أحاديث منها مارواه البخاري عن عائشة قالت: زفت إمرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله صلى الله عليهم وسلم: "ياعائشة ماكان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" (صحيح البخاري، بشرح عمدة القاري: 20/ 149).
ومنها حديث جابر قال: "أنكَحَت عائشة ذات يوم قرابة لها رجلً من الأنصار، فجاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها؟ فقال أبو محمد: كلمة ذهبت عني. فقالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم" (صحيح، رواه البخاري، انظر الجامع الصحيح للألباني رقم 5024)
ومنها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي أنيتغنىبالقرآن) (أخرجه البخاري برقم 4736).
كما استدلوا ببعض الآثار عن الصحابة منها: أن عمر مرَّ برجل يتغنى، فقال: إن الغناء زاد المسافر. (المحلى (9/ 63)
وعن ابراهيم النخعي أن أصحاب ابن مسعود كانوا يستقبلون الجواري في المدينة معهن الدفوف فيشققونها (المحلى (9/ 63)
وحكى الماوردي أن معاوية وعمرو بن العاص قد سمعا العود عند ابن جعفر. وعن سعيد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يغني بالعود (المحلى (9/ 60).
وغير ذلك من الآثار الموقوفة.
وقد ردَّ ابن حزم في كتابه المحلى على الأثار الموقوفة على بعض الصحابة الذين ينكرون الغناء، وهى كثيرة جداً. قال رحمه الله: "أنه لاحجة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الآثار قد خالفت غيرهم من الصحابة والتابعين، إن نص الآية يبطل احتجاجهم بها، لأن فيها: (ومِنَ النَاسِ مَنْ يَشْتَرِىَ لَهْوَ الحَدِيثَ ... الآية) .. وهذه الصفة من فعلها كان كافراً بلا خلاف إذا اتخذا سبيل الله تعالى هزوا، ولو أن إمرءاً اشترى مصحفاً ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزواً لكان كافرا، فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم قط عز وجل من اشترى لهو الحديث ليسلي به ويروِّح نفسه لا ليضل عن سبيل الله فبطل تعلقهم." (9/ 60)
وقد إستدل ابنطاهر على إجماع أهل المدينة بإباحة الغناء، ثم أرجع ابن حزم في كتاب المحلى المسألة إلى النية، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ... ) فمن نوى باستماع الغناء عونا على معصية الله فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء ومننوع به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها وقعوده على باب داره متفرجاً أو غير ذلك ... "
هذا مجمل ما استند إليه من يرون إباحة الغناء مطلقاً والله تعالى أعلم.
خامسا:
رد ابن حزم ومن معه على ما استدل به عامة العلماء وهي الشبه التي بنوا عليها تضعيف أدلة المحرمين:
الشبهة الأولى لابن حزم ومن وافقه:
زعم ابن حزم أن الحديث منقطع، لم يتصل مابين البخاري وصدقة بن خالد، قال في مجموع رسائله: "وأما حديث البخاري: فلم يُوردْهُ البخاريُّ مسنداً، وإنما قال فيه: قال هشام بن عمَّار" (مجموع رسائله 1/ 434)
وفي المحلىَ قال: "هذا منقطع، لم يتصل مابين البخاري وصدقة بن خالد." (المحلى: 9/ 59).
الرد على هذه الشبة:
¥