القاعدة الثالثة: بيان أنَّ القذف بعمل قوم لوط مبنيٌ على عقوبة من عمل هذا العمل.
قبل أن ندخل في بيان هذا نستعرض أشهر أقوال العلماء في عقوبة من يعمل عمل قوم لوط؛ وهي:
القول الأول: يقتل مطلقًا الفاعل والمفعول به، محصنًا كان أم غير محصن.
القول الثاني: أنَّه يعامل معاملة الزاني؛ فيرجم إن كان محصنًا، ويجلد إنْ كانَ غير محصن.
القول الثالث: أنَّ فيه التعزير حسب ما يراه الحاكم.
وبناءً على هذا الاختلاف في العقوبة اختلف العلماء فيمن قَذَفَ أحدًا بهذا العمل؛ فهل يعامل معاملة القاذف بالزنا أم لا؟
قال ابن قدامة في المغني (9/ 80): ومبنى الخلاف هاهنا – أي: في القذف بعمل قوم لوط – على الخلاف في وجوب حدِّ الزنا على فاعل ذلك. اهـ.
وقال ابن حزم في المحلى (2159) بعد أنْ ذَكرَ وقوعَ الاختلاف في إيجاب الحد على مَنْ قَذَفَ آخر بعمل قوم لوط: فلمَّا اختلفوا وجبَ أنْ نَنْظُر في ذلك؛ فوجدنا هذه المسألة – يعني: مَنْ رَمَى آخر بأنَّهُ يَنكحُ الرجال، أو بأنه يَنْكِحُهُ الرجال – إنما هي معلقةٌ بالواجب في قوم لوط؛ فإن كانَ زنًا فالواجب في الرمي بِهِ حدُّ القذف بالزنا، وإنْ كانَ ليس زنًا فلا يجب في الرمي بِهِ حدُّ القذف بالزنا. اهـ.
وقال ابن القيم في الطرق الحكمية (1/ 436): وقياس قولِ مَنْ لا يرى فيه الحد بل التعزير أنْ يُكتَفَى فيه بشاهدين، كسائر المعاصي التي لا حدَّ فيها، وصرحت به الحنفية، وهو مذهب أبي محمد ابن حزم.
وقياس قول مَنْ جعلَ حدَّه القتل بكل حال – محصنًا كان أو بكرًا – أنْ يكتفي فيه بشاهدين؛ كالردَّةِ والمحاربة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي، وهو مذهب مالك – رضي الله عنهم – لكن صَرَّحُوا بأنَّ حدَّ اللواط لا يقبل فيه أقل من أربعة.
ووجه ذلك: أن عقوبته عقوبة الزاني المحصن، وهو الرجم بكل حال.
وقد يُحتجُّ على اشتراط نصاب الزنا في حدِّ اللواط بقوله تعالى لقوم لوط: " أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " [النمل: 54]، وقال في الزنا: " والَّاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعةً منكم " [النساء: 15].
وبالجملة: فلا خلاف بينَ مَنْ أوجبَ عليه حدَّ الزنا أو الرجم بكل حال أنَّهُ لا بُدَّ فيه من أربعةِ شهود أو إقرار؛ وأما أبو حنيفة وابن حزم فاكتفيا فيه بشاهدين بناءً على أصلهما. اهـ.
القاعدة الرابعة: بيان مقصد الشارع من حدِّ القذف.
فإنَّ الله – سبحانه وتعالى – عندما شَرَعَ الشرائع وحدَّ الحدود إنما كان هذا لأسرارٍ وحِكَمٍ ومعانٍ وغاياتٍ يَحصُلُ من خلالها تحقيق ما فيه خير وصلاح العباد.
والمقصد الأساسي في تشريع حدِّ القذف هو: حفظ الأنساب من الطعن والتشكيك، ويدل على أنَّ هذا هو المقصد الأساسي ما يلي:
1 – أنَّ من ادعى على آخر بعمل كلِّ شيءٍ إلا الجماع (الزنا)، فإنَّ الواجبَ في حَقِّهِ التعزيرُ دونَ حَدِّ القذف في قول جمهور أهل العلم؛ فلو كان هناك مقصد آخر غير حفظ الأنساب من الطعن والتشكيك لوجب حدُّ القذف في الرمي بالمفاخذة والخلوة ونحوها [4] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=34#_ftn4) .
2 – أنَّ مَنْ نَفَى نَسَبَ شخصٍ يقامُ عليه حدُّ القذف؛ وهذا يدلُّ على أنَّ حفظ النسب هو المقصد من تشريع حدِّ القذف.
3 – أنَّ الفقهاء اشترطوا شروطًا في المقذوف منها كونُهُ بالغًا معلومًا سليم الآلة الجنسية ونحوها مما يدل على أنَّ المقصد هو حفظ الأنساب؛ فلو كانَ المقذوف صبيًا أو غير معلوم أو مجبوبًا أو نحو ذلك لم يَجب الحد [5] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=34#_ftn5) .
4 – أنَّ القاذف إذا استطاع أنْ يثبتَ صحةَ كلامِهِ بشهادةِ شهودٍ أو إقرار المقذوف فلا حدَّ عليه.
5 – أنَّ الزوجَ إذا قَذَفَ امرأتَهُ – وهو مِنْ أشدِّ الناس تضررًا بزنا امرأتِهِ – ولم يستطع إثباتَ ذلك؛ يَدرأُ عنه الحد لِعانُهُ.
وهذه الأمور الثلاثة الأخيرة تدلُّ على أنَّ القذف ليس متعلقًا بمطلق تلطيخ العرض، ولو كان هذا صحيحًا لأقيم الحد على قاذف الصبية والمجبوب، ولأقيم الحد على القاذف حتى ولو ثبت صحة كلامِهِ، ولَمَا اُكتفي بالنسبة للزوج ملاعنته لامرأتِهِ.
¥