"فإذا شرع [القرآن] في بيان حقيقة الخلق منذ البداية؛ ذكر أن هذه البداية كانت في صورة (بشر) هكذا مُنَكَّرا، باعتباره النموذج الذي أجريت عليه عمليات التسوية، والتصوير، والنفخ من روح الله (والتزود بالملكات العليا التي كان بها البشر إنسانا ـ وهي: العقل، واللغة، والدين) ". و"لأمر ما وجدنا القرآن لا يخاطب البشر، بل يخاطب الإنسان، والتكليف الديني منوط بصفة (الإنسانية)، لا بصفة (البشرية)، فلم يعد للبشر وجود منذ ظهر آدم عليه السلام. . . " (ص88). ثم يصف "البشر" بأنهم "جماعات الهمج البشرية" (ص99).
لكن هذا "التأصيل" لكلمة "بشر" ليس مسَلَّما؛ فهناك عدد من المشكلات التي تعترض سبيله، وتمنع الأخذ به، بالإضافة إلى عدم صحة التعريف المعجمي للكلمة، كما رأينا. ثم كيف يستقيم أن يكون معنى "بشر" (الظهور مع حسن وجمال)، مع وصفه لهؤلاء البشر بأنهم "همج"، ومع أن بقايا الأطوار القديمة التي وجدها الباحثون لهؤلاء "البشر"، وهي التي لا يعترض المؤلف على أنها تمثل "البشر"، لا تتناسب في حسنها وجمالها مع حسن الإنسان المعاصر وجماله؟
يضاف إلى ذلك أن المعاني الأربعة، التي يرى أن لفظ "بشر" استخدم لها في القرآن الكريم، ليست صحيحة كما سيتبين بعد قليل.
وحين نستعرض السياقات التي وردت فيها كلمة "بشر" في القرآن الكريم فإننا نجدها تستعمل، معرَّفة ومنكَّرة ومُثَنّاة، بمعان تختلف عن المعاني التي يقول إنها استعملت فيها. فقد استعملت في المعاني التالية:
بمعنى رجل:
ومن الشواهد على هذا المعنى ما ورد في قوله تعالى:
"قالت رب أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر" (آل عمران، 47)
وهو المعنى الذي نجده في الآيات:
1ـ"وقلن حاشا لله ما هذا بشرا" (يوسف31)
2ـ"ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" (النحل103)
3ـ "فتمثل لها بشرا سويا" (مريم17)
4ـ"قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر" (مريم، 20)
5ـ"فكلي واشربي وقَرِّي عينا، فإمّا تَرَيِنَّ من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" (مريم26).
بل إنها لا يمكن أن تفهم، في بعض الآيات، إلا على أنها تدل على "الرجل". وذلك في مثل الآية التي ذكرتها هنا والآية (20) في سورة مريم:
"قالت أَنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر" (مريم، 20).
فمن الواضح أن مريم عليها السلام تستغرب، في هاتين الآيتين، أن تلد غلاما من غير أن يمسها رجل؛ إذ لا يمكن أن تخاف من أن تمسها امرأة في هذا السياق. يضاف إلى ذلك أن هاتين الآيتين تصوران حدثا وقع في زمن يدخل فيما يطلق عليه الدكتور شاهين "زمن التكليف"؛ أي أنه وقع في طور "الإنسان"، لا طور "البشر"، إذا استعملنا مصطلحات المؤلف. فاستخدام كلمة "بشر" في هاتين الآيتين ينفي المعاني التي يراها الدكتور شاهين لهذه الكلمة؛ وهي بذلك دليل ضد فرضيته في هذا الكتاب التي تحصر مفهوم كلمة "بشر" على الطور الذي سبق الإنسان المكلف.
كما أن الآيات الكريمة الأخرى تدل دلالة أكيدة على أن المقصود إنما هو الإنسان الذَّكر، أي الرجل.
بمعنى "نبي" أو "أنبياء":
وتأتي كلمة "بشر" كذلك في سياق الحديث عن الأنبياء عليهم السلام؛ وذلك في وصف الله سبحانه وتعالى للأنبياء بأنهم من جنس الإنسان. كما تأتي في وصف الأنبياء لأنفسهم بأنهم من بني الإنسان وإنما فُضِّلوا على غيرهم بالاختصاص بالرسالة. وتأتي كذلك في الدلالة على استنكار أقوام الأنبياء أن يرسل الله تعالى رجالا منهم أنبياء. وقد حدث كل ذلك في الفترة التي يمكن أن يسميها الدكتور شاهين بفترة طور "الإنسان". وذلك كما في قوله تعالى:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" (آل عمران 79)
وهذا هو المعنى الذي نجده كذلك في الآيات:
1ـ"وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونها قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" (الأنعام91)
فموسى هنا من جنس البشر.
¥