وأقول: ليست هى البداية، وإنما هو منهج يقوم على بداية أولى، وتلك البداية هى عاطفة الإسلام دينا ومنهج حياة، وأسلوب حضارة. هو اليقين فى الله والجهاد فيه قبل الجهاد فى سبيله .. هو فقه الإيمان بالله وسبيل الله، ابتداء من الكلمة الطيبة، إلى والعمل الصالح، والحجة الظاهرة، وانتهاء ببيع النفس والمال فى سبيل الله .. أى: هو الحب لله ولرسول الله ولسبيل الله. وقد سجل القرآن كل تلك المراحل فقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} (الحج: من الآية78) وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: من الآية69).
ثم قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: من الآية195).
وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (القصص: من الآية87). {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل: من الآية125).
ثم قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (البقرة: من الآية216).
والذى نعلمه: أن القتال فتأخر عن الدعوة بالحسنى، وعن الجهاد بمعناه العام، حتى لقد قال جمهور العلماء: إنه نسخ الدعوة بالحسنى .. والذى نعلمه أيضا: أن معرفة الله متقدمة على العلم لسبيله، وعلى الجهاد فيه، ولا مفر من رعاية الرتكيب.
فأول آيات القرآن نزولا ولا قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق:2) وهى تعريف بالله تعالى، وليس فيها من العمل شىء.
وبهذا الترتيب بين العلم بالله أولا، وبين العمل ثانيا، نزل الوحى على جميع الرسل، قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:2). فالفرقة متقدمة على العمل كما نرى.
ومما نزل بنى الإسلام r قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (محمد: من الآية19) فقدم العلم بالله على العمل، وعلى كل شىء من معارف الإسلام. وليست معرفة الله والعلم به شيئًا يسيرا يدعيه كل أحد بمجرد النطق بالشهادتين، أو قراءة بعض الكتب الجدلية، وترديد محتوياتها، وإنما تأخذ معرفة الله أهميتها من الزمن الذى يجب أن يستفرقة الإلمام بها وبمناهجها، وهذا الزمن ثابت فى عمل الرسول r بأمر ربه، إذ بقى فى مكة ثلاثة عشر عاما من عمر الدعوة البالغ ثلاثة وعشرين عاما يعلم أصحابه (لا إله إلا الله).
فإذا كان أعظم المصلحين قد علم أذكى الطلاب (لا إله إلا الله) فى ثلاثة عشر عاما، فلا يسوغ للعامة أن ينصبوا أنفسهم دعاة إلى الله بعد علم أو عامين من الدرس التقليدى، أو لمجرد انتسابهم إلى جماعة من جماعات الدعوة، أو لأنهم عنوا ببعض الشكليات التى تعطى فى الظاهر سمت السلفية. فهذا خطر عظيم على مسار الدعوة وعلى مسار الحضارة جميعًا، إذ لم تكتمل لهم بعد هذا الزمن القصير أبعاد المعرفة بالله، ولا أبعاد العاطفة الإيمانية، وإن خدعتهم نفوسهم بغير الحقية.
ونخرج من هذا البيان بأن المعرفة الإلهية لابد أن تسبق الدعوة إلى الله، وبأن الزمن الذى يجب أن تستغرق المعرفة بالله يجب أن يتلاءم مع الزمن الذى استغرق تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، وبأن هذا هو منهج القرآن، ومنهج كل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
* * *
أما المادة العلمية التى يجب أن تستخدم فى الدعوة إلى الله، وفى تعريف الناس به، فلم يهملها القرآن، وإنما ذكرهامتدرجة من الظاهر إلى الخفى فالأخفى، ليكون منهجا للتعليم على مدى الزمان. فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:22) ففى هذا النص إثبات التوحيد بخمسة أنواع من الدلائل مرتبة تلو بعضها بعضا:
أولا: استدلال الطلاب على التوحيد بأنفسهم {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}.
¥