هذا كلام الطبري نقله الجديع عن شرح ابن بطال للبخاري، وقد نقله أيضا العيني في عمدة القاري ثم علق الأستاذ فقال ص (304):
" قلت فتأمل ما يشير إليه ابن جرير من اعتبار العرف و حال المجتمع في صفة اللحية وهيئتها وهذا هو المعنى الذي نبهت عليه من قبل على أن السنة: أن يراعي المسلم في هيئته ومظهره عرف أهل زمانه ومكانه ... " ا. هـ
وقد أخطأ الأستاذ، فليس المعنى الذي نبه عليه الإمام الطبري هو الذي نبه عليه الأستاذ.
فالإمام الطبري يقول كما نقل الحافظ في الفتح (10/ 363) بأن اللحية: " يؤخذ منها ما لم يفحش الأخذ " كذا نقله الحافظ بالمعنى.
وهنا أرجع هذا إلى العرف، أي أرجع القدر المأخوذ من اللحية، أما القدر المتبقي فلا بد أن يكون بمقدار لا يتجاوزه الأخذ، ولذلك اشترط في الأخذ ألا يكون فاحشا.
فالمسألة عند الطبري هي أنه لابد أن تكون للمسلم لحية وإن كان هناك أخذ، وحد هذا الأخذ ألا يفحش أي ألا يكون كثيرا، وأشار إلى مراعاة العرف أي عرف من كانوا يعفون لحاهم ويأخذون منها بقدر.
أما حلقها كما يريد الجديع، وأن المسلم يتماشى مع العرف حتى لو كان العرف الحلق، فهذا لا يقول به الإمام الطبري، و إلا فما معنى ما نقله الحافظ من اشتراطه ألا يفحش الأخذ، ثم إن الإمام الطبري أيضا كان يتكلم عن مسألة الأخذ فقط فهي التي أرجع فيها الأمر إلى العرف (مسألة الأخذ مع بقاء الإعفاء) فلا يحمل كلامه مالا يحتمل، ويستغل ليشمل الإعفاء من أصله وأنه يراعى فيه العرف أيضا، فهذا من سوء الفهم أو سوء القصد والله أعلم.
وكأن الأستاذ الجديع يريد أن يوجد لنفسه سلفا في المسألة وبأي طريقة.
وللأستاذ أيضا من الخطأ مثل ما تقدم، فقد قرر أن إظهار مخالفة غير المسلمين في الصورة والتميز عنهم بها يخضع للتمكن وعدمه، ثم نقل كلاما لشيخ الإسلام، ولم ينبه إلى ما دل عليه كلام الشيخ من أن مخالفة الكفار في الهدي الظاهر إنما تترك عندما تكون سببا لوقوع الضرر، بل جعل الجديع كلامه في الكتاب كله مطردا، حيث غاب التمكين سقط الأمر بالمخالفة، وهذا سوء في الفهم.
قال الأستاذ الجديع ص (211):
" وفى هذا المقام كلمة تأصيلية تكتب بماء الذهب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال رحمه الله: " إن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه ... فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم، لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم
الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا " ا. هـ
هذا الكلام بطوله لشيخ الإسلام نقله الأستاذ الجديع فقول شيخ الإسلام:
" لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر " ا. هـ
ظاهر في بيان سبب ترك المخالفة وأنه الضرر لا غير، واللام في قوله: " لما عليه في ذلك " هي للتعليل، فمن سوء الفهم أن يجعل الكلام عاما لكل من عاش في دار الكفر، ولو أنه أمن منهم حلول الضرر به كحال كثير من دور الكفر اليوم كالدول الأوربية، فكثير من المسلمين يعيشون فيها مظهرين شعائر الإسلام، وخاصة من كان أصلا من عرقهم، فكلام شيخ الإسلام لا يتناول هؤلاء باعتبار إمكان إظهارهم لشعائر الإسلام دون توقع حصول ضرر.
وكذلك قوله: " بل يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية "
هو واضح كذلك في تقيد ترك الظاهر بالمصلحة، فحيث وجدت المصلحة الراجحة التي ترجح على مصلحة العمل بالظاهر وجب ترك الظاهر أو استحب بحسبه.
فكلام شيخ الإسلام ليس بمطلق كما زعم الجديع.
وإن من إحساني الظن بالأستاذ أن جعلت هذا من سوء فهمه وإلا فغير سوء الفهم وارد والله المستعان.
¥