" وأما حكم قص الشارب، فإنه سنة مستحبة على كل حال، فإن النصوص التي وردت في اللحية ذكرته آمرة به للمخالفة، لكن المعنى فيه لغير المخالفة أوكد منه للمخالفة، فإنه من سنن الفطرة وأمر النبى ? بالأخذ منه، ووقت لذلك مدة أقصاها أربعون ليلة ... " ا. هـ
فأين كان هذا الكلام يا حضرة الأستاذ عندما قلت:
" وقد علمت أن الأمر بالمخالفة هو المقصود في الأحاديث، وليس مجرد إعفاء اللحية وقص الشارب، فلا يجوز بعده التعلق بالأمر بالإعفاء والقص مجردين عن السبب فيهما " ا. هـ
ألست تدعوا بهذا الكلام إلى عدم اعتبار أي سبب في القص إلا المخالفة فقط.
ألم تقل أيضا:
" ... ما دلت عليه الأحاديث الآمرة بالإعفاء والقص للعلة المذكورة، وتكون تلك الصورة غير مأمور بها إذا لم تفد المخالفة " ا. هـ
فكيف أصبح المعنى في القص لغير المخالفة أوكد من المخالفة بعد أن كانت المخالفة هي المعتبرة فقط في القص (قص الشارب) (1)
هذا هو التلاعب الذي أشرت إليه، فعندما كان في حاجة لأن يسوي بين الأمر بالإعفاء والقص ليصل من خلال هذه التسوية إلى إعطاء إعفاء اللحية نفس حكم قص الشارب أبرز جانب المخالفة فقط، ليستويا في العلة وبالتالي ليقرر استواءهما في الحكم.
ولتحصيل المقصود أعرض الجديع عن التفصيل في حكم الشارب، وأعرض عن الأدلة التي تمسك بها القائلون بالوجوب، أي أعرض عن بيان علاقتها بحكم المسألة، وعن توضيح وجه الدلالة منها على الحكم وجوبا أو استجابا، وإنما نص على الاستحباب فقط، وأمرّها لتفوت على القاري.
وبعد أن حقق الجديع ما يريد، جاء في مبحث آخر وقرر أن الأمر بقص الشارب كان لمعنى غير المخالفة أوكد من المخالفة.
وكل ما سبق من الأستاذ إنما هو محاولة فاشلة لتقرير استحباب إعفاء اللحية، وسيتبين للقاري الكريم أن الطريقة التي سلكها الجديع بكلامه السابق إنما هي عليه وليست له.
فقد صح عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه أن النبى ? قال:
" من لم يأخذ من شاربه فليس منا "
وجاء توقيت هذا الأخذ في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:
" وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة "
فالأخذ من الشارب واجب بنص الحديث الأول، وبدلاله الحديث الثاني، وقوله: " وليس منا " لا يحتمل إلا وجوب الأخذ ولذلك قال العلامة ابن مفلح في الفروع (1/ 100):
" وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم "
وقال أيضا (1/ 100):
" وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض" ا. هـ
وبنحوه ما جاء عن ابن عبد البر فقد قال في التمهيد (21/ 62):
" وقد أجمعوا أنه لابد للمسلم من قص شاربه أو حلقه "
وقال ابن حزم في المحلى (2/ 218):
" وأما قص الشارب ففرض"
وإلى وجوبه ذهب العلامة أبو بكر بن العربي كما في الفتح (10/ 339) ونقله ابن دقيق العيد عن بعض العلماء كما في الفتح أيضا (10/ 340).
وبه قال العلامة ابن القيم فقد قال في تحفة المولود (177):
" وأما قص الشارب فالدليل يقتضي وجوبه إذا طال، وهذا الذي يتعين القول به لأمر رسول الله به، ولقوله: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " ا. هـ
بل قوله " يتعين " فيه إلزام للقول به، وأنه لا ينبغي القول بخلافه، وهذا صواب إذ كل من ترك القول بالوجوب فهو قد ترك حديث النبي ?: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " ولا يجوز ترك حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يمكن بحال حمل هذا الحديث على معنى يوافق القول بالاستحباب مطلقا.
وقال العيني في عمدة القارئ (22/ 42) عند شرحه للترجمة:
" أي هذا باب في بيان سنية قص الشارب بل وجوبه " ا. هـ
وبه بوب الإمام أبو عوانة فقال في كتابه:
" إيجاب جز الشوارب وإحفائه ... "
وما أظن الأستاذ الجديع هرب من التعرض لذكر قول من قال بالوجوب توضيحا إلا لعجزه عن الجواب عما أورده القائلون بالوجوب، وبخاصة حديث زيد بن أرقم: " فليس منا " فلجأ الأستاذ المحقق إلى إهمال هذه الجزئية لتنفق البضاعة، وما هكذا يفعل أهل الصدق يا أستاذ، فأين أدب الفكر الذي تزعم فكسوت به نفسك وسلبته غيرك، فها أنت قد سلبته وجردت منه، فليس أمامك يا أستاذ إلا لباس التوبة والصدق (ولباس التقوى ذلك خير).
فإذا علمت أخي الكريم وجوب قص الشارب على ضوء التوقيت النبوي، علمت أن قاعدة الجديع
¥