السابقة قد رجعت عليه، فالأمر بالإعفاء مقرونا بقص الشارب يوجب اتحادهما في درجة الحكم، وحيث أن القص واجب فهو قرينة على وجوب إعفاء اللحية أيضا، ومنه تعلم أن علة المخالفة في الأمر بهما لم يكن المراد منها تخلف الأمر عند تخلفها بدليل وجوب القص في كل حال، سواء وجدت المخالفة أو انعدمت، وما أظن الأستاذ الجديع سيتخلى عن قاعدته السابقة وسيزعم التفريق بين قص الشرب وإعفاء اللحية من حيث الأمر بهما عند تخلف العلة.
وبهذا تعلم أن قاعدة الجديع السابقة إنما هي عليه وليست له، وتعلم أيضا حقيقة تلاعبه بتجاهل ما دل عليه حديث زيد بن أرقم من وجوب قص الشارب وأن من لم يفعل " فليس منا ".
وكذا حديث أنس بن مالك: " وقت لنا ... أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة “.
فقوله: " أن لا نترك " هو في معنى النهي ولا صارف له.
ولورود الأمر بالإعفاء مقرونا مع قص الشارب في عدة أحاديث متغايرة كان توحيد حكمها لائقا وضروريا بخلاف ما لو قرنا في حديث واحد فقط، فإن توحيد الحكم سيكون محتملا، لأنه كما قال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب (3/ 148):
" ولا يمتنع قرن الواجب بغيره كما قال تعالى: ?كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ? والإيتاء واجب والأكل ليس بواجب والله اعلم" ا. هـ.
غير أن مسألتنا قد احتف بها قرائن كثيرة، منها اتحاد العلة، وتكرار قرنهما في أحاديث متغايرة ونحو هذا.
ومن كلام الإمام النووي تعلم بطلان ما ذهب إليه الجديع في حديث أبى أمامة حيت قرر في كتابه ص (204 - 206) أن صبغ الشعر والائتزار والتنعل وقص الشارب وإعفاء اللحية جميعها يجب أن تتحد في الحكم، فليس كل ما قرن مع غيره أخذ حكمه بدليل الآية والله اعلم.
خامسا: تكلفه في تأويل كلام الأئمة:
نقل إمام الشافعية في عصره العلامة نجم الدين أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن الرفعة المولود سنة خمس وأربعين وستمائة، في كتابه (الكفاية في شرح التنبيه) عن الإمام الشافعي أنه نص في الأم على تحريم حلق اللحية.
وتتابع جماعة من فقهاء الشافعية على نقله عن ابن الرفعة في كتبهم دون استنكار، كما في حاشية أحمد بن قاسم العبادي على تحفة المحتاج، و حاشية الشرواني، وكذا شرح العباب وإعانة الطالبين للدمياطي.
فنقلوه ولم يستنكروا ثبوت هذا عن الشافعي.
ونقله عن الشافعي أيضا محمود بن السبكي في المنهل العذب المورود (2)، والمعصومي في عقد الجوهر الثمين ص (167) (2) والشيخ علي محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع ص (410).
فضاق صدر الأستاذ الجديع مما نقله ابن الرفعة إمام الشافعية في وقته عن الإمام الشافعي، ولم يلتفت حضرة الأستاذ إلى تقدمه ومنزلته في المذهب، ولا إلى ما تتابع عليه فقهاء الشافعية من بعده من نقله دون اعتراض، ولا إلى من أيد ابن الرفعة في هذا النقل كالسبكي والمعصومي، فهوى عليه بمعول التكلف والتأويل محاولا طمسه ومحوه حتى لا يكون لمن يقول بوجوب الإعفاء سلف.
فقال الأستاذ في كتابه ص (229):
" وكبار أئمة الشافعية حين تعرضوا إلى هذه المسألة لا يذكرون إلا كراهة حلق اللحية (3)
ولو كان الشافعي قد نص على التحريم فالمظنون أن لا يفوتهم ذكره كما سيأتي عن جماعة منهم وأقول: كتاب الأم عن الشافعي بجملته محفوظ، وأوجدنا الاستقراء له من عبارة الشافعي ما أبان عن رأيه في الأخذ من اللحية ...
وألصق ذلك بما عزي لابن الرفعة قول الشافعي في جراح العمد: " ولو حلقه حلاق ... وهو و إن كان في اللحية لا يجوز ... فابن الرفعة فيما أحسب أراد قوله: " وهو إن كان في اللحية لا يجوز" وليس عن الشافعي في الأم ما هو أقرب إلى ما ذكر ابن الرفعة من هذا النص والله أعلم
وكأن سائر الأصحاب ممن تقدم ابن الرفعة من محققي الشافعية كالرافعي والنووي لم يروا هذا عن الشافعي نصا في التحريم كما فهمه ابن الرفعة " ا. هـ كلام الجديع
هكذا دائما حضرة الأستاذ، لابد أن يحرر ويحقق ولكن فيما يتعارض مع رأيه ومراده، أما الموافق له والملائم فمرور الكرام، ثم هو تحرير وتحقيق من نوع فريد لا يقوم إلا على ساق التكلف والتأويل والتعسف.
¥