قال الإمام التوربشتي: " قال أبو عُبيد: إنها الزانية، ونقل الهَروي عن الزُّهري أنه قال: نهىَ عَن كَسب المرأة المُغنية، يُقال: غِنَاءٌ زَمِيرٌ: أي حَسنٌ، ويُقال: زَمَرَ إذا غَنَّى، وزمَرَ الرَّجُلُ: إذا ضَرَبَ المِزمَارَ فهو زَمَّار، ويُقال للمرأةِ: زَمَّارةٌ، ويُحتَملُ أن يكونَ تَسمِيةُ الزانيةِ زمَّارةٌ؛ لأنَّ الغَالبَ على الزَّواني اللاتي اشْتَهرنَ بذلك العمل الفاحِشِ واتَّخَذنَهُ حِرفَةً كُونُهُنَّ مُغَنِّيات ". (107)
الدليل الثامن:
ما رواهُ أبو هُريرةَ 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أن النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: (الجَرسُ مَزامِيرُ الشيطانِ) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. (108)
وعنه أيضاً 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قال: قالَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (لا تَصحًبُ الملائكةُ رُفقةً فيها كلبٌ أو جَرسٌ) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. (109)
وفي روايةٍ أم المؤمنينَ أم سلمةَ رضي الله عنهُا قالَت: سَمعتُ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: (لا تَدخلُ الملائكةُ بيتَاً فيهٍ جَرسٌ ولا تَصحًبُ الملائكةُ رُفقةً فيها جَرسٌ) رواه النَّسائي. (110)
فإذا كان الجرسُ مِزمَارَ الشيطان، فكذلكَ المعازفُ وآلاتُ اللهوِ والطربِ التي هي أعظم منه من أعظم مزامير الشيطان كما بين ذلك العُلماء.
وإذا كانت الملائكةُ لا تدخل بيتاً فيه جرس، ولا تصحبُ رِفقةً فيها جَرس، فالمعَازف وآلات الطربِ واللهوِ التي هي أشد وأعظم كذلك.
وقد عَدَّ الأمامُ محيي الدين ابن النحاس الشافعي سماع ذلك من الكبائر في كتابه تنبيه الغافلين في فصل ما اختارهُ جماعةٌ مِنَ العُلماءِ من الكبائر حيث قال: " ومنها سماعُ الأوتارِ والمعازف ".
وقال أيضاً: " فصلٌ في ذكرِ شيءٍ مما يقعُ في النكاحِ، وبَعدَهُ من البدَعِ والمُنكراتِ: ومنها ما يفعله أهل ديار مصر ويُسَمُّونهُ الشطورَ: وهو بدعةٌ يشتملُ على جُملةٍ مِنَ المُنكراتِ ... وحضورِ الأغاني بالآلاتِ المُحرمة ".
وقال أيضاً: " فصلٌ في ذكر بعضِ ما ابتُدعَ في المَواسِمِ والأعيادِ، قال ابن الحاج: ومِن جُملة ما أحدثوهُ مِن البدعِ – مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات – ما يفعلونهُ في المولد وقد احتوى ذلكَ على بِدعٍ ومُحرَّماتٍ منها: استعمَالُهم الأغاني وآلات الطرب وحُضور المردان والشَّبَّابَاتِ ... ". (111)
وقد استحبَّ الإمام أحمد كسر آلات الطرب والمعازف إذا تأكد الإنسان من وجودها وقدرَ على كسرها
سُئل الإمام أحمد: " عن الرجُلِ يَرى الطنبُورَ أو الطبلَ مُغطىً أيَكسِرْهُ؟ فقال: إذا كان يُثبتْهُ أن طنبُورٌ أو طَبلٌ كَسرَهُ ". (112)
وبين الإمام أحمد أيضاً أن من كسر تلك الآلات فإنَّ لهُ فضلٌ ومأجور في ذلك، ولو آذاهُ السلطان بمكروه فإنه يغبِطه على ذلك.
ففي سؤالات الإمام أبي داوود قال: " سمعتُ أحمدَ سُئل عن الطنبُورِ أو الطبلِ أو نحو ذلكَ واجِبٌ تغييرُهُ؟ قال: " ما أدري ما واجبٌ، إن غَيَّرَ فَلَهُ فََضْلٌ " قيل لأحمد: فإن أصابَهُ مِن قِبَلِ السلطانُ في ذلكَ مكروهٌ ترجوا أنْ يؤجَرَ؟ فرأى لهُ فضلاً، تكَلَّمَ بشيءٍ كأنَّهُ يَغبطهُ ". (113)
فيا من اختار السماع الشيطاني من الأغاني وآلات اللهو المعازف وترك السماع الرحماني من القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، لقد اخترت الفاني على الباقي، وفضلت الأدنى على الذي هو خير وأعلى. فيا لخسارتك في الدنيا والآخرة. واعلم أنه لا يجتمعُ في قلبِ المسلمِ حبُّ القرآنِ وحُبُّ الغِناءِ. واعلم أن في الجنة غناءً ليس كغِناء أهل الدنيا المحرم، كما أن فيها خَمراً ليس كخمر الدنيا، فإن أردت سماع غناء الحور في الجنة فَنَزِّهْ سَماعكَ عَن غِناءِ أهلِ الدنيا الذي هو سبب للفساد وهجرٌ للقرآنِ وبُعدٌ عَن ذكرِ اللهِ تعالى.
قال الإمام الحَبرُ أبو بكر ابن القيم رحمه الله في نونيته العظيمة: (114)
نَزِّهْ سَمَاعَكَ إنْ أردتَّ سَمَاعَ ذيَّـ ... ـاكَ الغِنا عَن هذهِ الألحانِ
لا تُؤثِرِ الأدنى على الأعلى فتُحْـ ... ـرَمُ ذا وذا يَا ذِلَّةَ الحِرمَانِ
¥