أحدهما: انه لا يوجد إنسان يحيط بكل العلوم المذكورة ولو أن المرء أشغل نفسه بكل علوم الخلق لم يدرك منها ما يصح أن يقال له فيه حامل علم _ كما أطلق هنا _ على أي علم منها.
والثاني: أن العلوم في كل عصر بازدياد وتجدد فكل عصر يستحدث فيه علوم لم تكن معلومة فيما سبق.
وينبغي أن يعلم أن هناك العالم المطلق ومطلق العالم فالعالم المطلق الذي يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء ولا يضاف لشيء فقط دون غيره هو وصف لا يليق إلا بالله تبارك وتعالى، وأما مطلق العلم وهو العلم الإضافي النسبي فهو علم الخلق حتى وإن أدرك كل العلوم المذكورة في كلام الشيخ، وحيث إن النصوص ذكرت العلم مطلقا _ مع أنه في الواقع علم إضافي نسبي _ فهذا يدل على أنه يطلق على من أحاط ببعض العلوم اسم (عالم)
أما أنه يخالف النصوص فلما يلي:
أولا: ورد إطلاق اسم العالم في نصوص القرآن والسنة وهي قطعاً لا يراد بها من أتقن كل هذه العلوم ومن ذلك قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " العلماء ورثة الأنبياء " رواه ابو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي الدرداء 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -.
وثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " متفق عليه
و عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا هكذا " يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. متفق عليه
وقد أطلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسم العالم على علماء هذه الأمة الأمية التي لا تعتمد الحساب.
يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات (1/ 46): (المسألة الخامسة:
كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعى وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا
والدليل على ذلك استقراء الشريعة فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به ففى القرآن الكريم يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج} ... )
ثم قال: (فإن قيل العلم محبوب على الجملة ومطلوب على الإطلاق وقد جاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق فتنتظم صيغه كل علم ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل وما لا يتعلق به عمل فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم وأيضا فقد قال العلماء إن تعلم كل علم فرض كفاية كالسحر والطلسمات وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل فما ظنك بما قرب منه كالحساب والهندسة وشبه ذلك وأيضا فعلم التفسير من جملة العلوم المطلوبة وقد لا ينبنى عليه عمل ....
فالجواب عن الأول أن عموم الطلب مخصوص وإطلاقه مقيد بما تقدم من الأدلة والذي يوضحه أمران أحدهما أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب بل قد عد عمر ذلك في نحو وفاكهة وأبا من التكلف الذي نهى عنه وتأديبه ضبيعا ظاهر فيما نحن فيه مع أنه لم ينكر عليه ولم يفعلوا ذلك إلا لأن رسول الله صلى الله وسلم لم يخض في شىء من ذلك ولو كان لنقل لكنه لم ينقل فدل على عدمه والثاني ما ثبت في - كتاب المقاصد أن هذه الشريعة أمية لأمة أمية وقد قال عليه السلام
نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا ...
وكذلك القول فى كل علم يعزى إلى الشريعة لا يؤدى فائدة عمل ولا هومما تعرفه العرب فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ فى علومهم بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما استدل أهل العدد بقوله تعالى فاسأل العادين وأهل الهندسة بقوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية وأهل التعديل النجومى بقوله الشمس والقمر بحسبان وأهل المنطق فى أن نقيض الكلية السالبة جزئية ...
فإذا ثبت هذا فالصواب أن مالا ينبنى عليه عمل غير مطلوب في الشرع فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة وعلم النحو والتفسير وأشباه ذلك فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب إما شرعا وإما عقلا حسبما تبين فى موضعه لكن هنا معنى آخر لا بد من الالتفاف إليه وهو
لمقدمة السادسةوذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبى يليق بالجمهور وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور وإن فرض تحقيقا .. )
وينظر كلامه في الموافقات فهو نفيس في هذا الباب.
وعليه فالخلاصة أن وصف العالم ورد إطلاقه في النصوص الشرعية على من أتقن علوم الشريعة الموروثة عن السلف من الكتاب والسنة و لازال المسلمون يطلقون ذلك على من لم يحط بما ذكر من العلوم على علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم و على الأئمة كمالك وأحمد إلى وقتنا الحاضر يطلق اسم العالم على من اتصف بذلك كالشيخ ابن ابراهيم والسعدي وابن باز وابن عثيمين واالألباني رحمهم الله ونحن نقطع بأن هؤلاء العلماء لم يحيطوا بالعلوم المذكورة.
وثمة أمر آخر وهو أن الوقت قصير والعمر محدود فالعاقل يقضيه بما ينفعه من العلوم في دينيه ودنياه ولا يشقق ويتتبع كل علم فالواقع يدل أن من أراد الإحاطة بكل العلوم لم ينجح.
والله الموفق.
¥