[تتبع الرخص .... التأصل والواقع]
ـ[عبداللطيف البراهيم]ــــــــ[06 - 03 - 07, 04:59 م]ـ
مجلة البيان ـ العدد230 ـ شوال 1427هـ.
عبد اللطيف بن عبد الله التويجري
مدخل:
مفكرة الإسلام: الناظر في كتب أصول الفقه يجد أنه لا يخلو كتاب أُلِّفَ في هذا الفن قديمًا وحديثًا إلا ويوجد به تعريف للرُّخصة الشرعية، ولهذا؛ فقد كثرت تعريفات العلماء لها واختلفت، وأجود هذه التعريفات ـ كما قال الشيخ الشنقيطي ([1]) ـ تعريف "السبكي" لها بأنها: (الحكم الشرعي الذي غُيّر من صعوبة إلى سهولة لعذر اقتضى ذلك، مع قيام سبب الحكم الأصلي) ([2]).
وهذه الرُّخص التي جاءت بها الشريعة لها أحكامها وشروطها وضوابطها، ولذلك أفرد لها علماء الأصول أبوابًا مستقلة في كتبهم تناولت ذلك كله، فإذا أُطلقت الرُّخصة في كلام أهل العلم فإنما يراد بها هذا المفهوم المتقدم، والذي يراد به بمجيء الشريعة بالتخفيف عن المكلّفين، وتسهيل الأحكام وتيسيرها، والسماح بتناول القدر الضروري من المحظورات عند الحاجة، فالذي لا يستطيع ـ مثلاً ـ استعمال الماء لعدم القدرة عليه أُبيح له التيمم، قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
وأيضًا؛ فإن حكم أكل الميتة محرَّم بنص القرآن بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3].
لكن جاءت بعد ذلك الرُّخصة الشرعية المشروطة بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3].
قال ابن قدامة: (فإن قيل: فكيف يسمى أكل الميتة رخصة مع وجوبه في حال الضرورة؟ قلنا: يسمى رخصة من حيث إن فيه سعة، إذ لم يكلّفه الله تعالى إهلاك نفسه .. ) ([3]).
والأمثلة على هذا الباب كثيرة، وهذا كله جاءت به نصوص عديدة من الكتاب والسنة تدل عليه، مثل قوله عزَّ وجلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وبقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم برخصة الله الذي رخص لكم .. " ([4]).
فدلَّ هذا أن التيسير والتخفيف والترخيص عند المشقة مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، وأصل مقطوع به من أصولها ([5])؛ لتحفظ على الناس ضروراتهم وحاجاتهم.
وبناءً على ورود هذه الآيات والأحاديث في كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قرّر أهل العلم قواعد كثيرة في ذلك، منها: (المشقة تجلب التيسير)، و (الحرج مرفوع)، و (لا ضرر ولا ضرار)، و (الضرر يزال)، و (إذا ضاق الأمر اتّسع) ... إلخ ([6]).
وبعد؛ فإن مفهوم هذه الرُّخص الشرعية، ليس المراد في حديثنا بمسألة تتبُّع الرُّخص، وإنما ذكرنا ذلك لكي لا يلتبس الأمر، فالرُّخص الشرعية لا خلاف في الأخذ بها إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وسيأتي الإشارة إلى بعض ذلك في حكم الأخذ بالرُّخص، أما مسألة تتبُّع الرُّخص بأخذ الأسهل من الأقوال في مسائل الخلاف فهي مدار بحثنا وحديثنا، وسيأتي بيان ذلك في العناصر القادمة بإذن الله تعالى.
ثانيًا: تعريف تتبُّع الرُّخص:
وردت عدة تعريفات في معنى تتبُّع الرُّخص، فمنها: ما عرَّفه "الزركشي" بأنه: (اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه ... ) ([7]). وعرَّفه "الجلال المحلي" بقوله: (أن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل) ([8])، وهذه المعاني هي المعنية بهذا البحث، فالمقصود هو تتبُّع رخص العلماء باتِّباع الأسهل من أقوالهم في المسائل العلمية، بحيث لا يكون اتِّباع المكلف لهذه الرُّخص بدافع قوة الدليل وسطوع البراهين، بل الرغبة في اتِّباع الأيسر والأخف، سواء كان ذلك بهوى في النفس أو بقصد التشهي أو الجهل أو لأسباب أخرى سيأتي بيانها في العناصر التالية.
ثالثًا: بين التلفيق وتتبُّع الرُّخص:
لمسألة التلفيق ([9]) علاقة وثيقة بتتبُّع الرُّخص، ولذا فإنه يحسن أن نقف عندها، ونبين الفرق بين التلفيق وبين تتبُّع الرُّخص.
فالمقصود بالتلفيق عند العلماء هو: الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفِّق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولّد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها أحد ([10]).
¥