تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

على شرائه، وهذا يرى أنه لا ينبغي إقامة حدّ الردة على المرتدّ في هذا الوقت، وآخر يرى جواز مصافحة المرأة الأجنبية للرجال وتقبيلها ضاربًا على الأحاديث الصريحة عرض الحائط، ولا تعجب أن تسمع من يقول لأحد اللجان الوضعية في بلاده: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه موافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنصٍّ من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم ... " ([32]).

إن من يسمع لمثل هذه الفتاوى أو يقرؤها ليتبادر إلى ذهنه سؤال كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ وهل يجوز لهذا المفتي أو غيره من المُفتين الإفتاء في دين الله بالتشهي والتخيّر؟! وهل يجوز البحث عن الأقوال التي توافق غرض المفتي وهواه؟! أو غرض من يحابيه .. فيفتي به ويحكم به؟ يُجيب عن ذلك ابن القيم بقوله: (هذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر والله المستعان .. ) ([33]).

وهذا "الإمام الشاطبي" ينقل في (موافقاته) كلامًا جميلاً للإمام الباجي قال: " ... لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدُّ به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخط من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حَكَمَ به وأوجبه؟ والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ([34]).

ونظرًا لأهمية هذه المسألة فقد عدَّ بعض العلماء كالسمعاني وغيره الكفّ عن الترخيص والتساهل شرط من شروط المفتي ([35]).

ولو تأملنا ما رواه البيهقي ([36]) بإسناده عن إسماعيل القاضي يقول: (دخلت على المعتضد بالله فدفع إليّ كتابًا، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له من الرُّخص من زلل العلماء، وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنِّفُ هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر النبيذ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب) ([37]). فهذا المذهب والمسلك الذي سلكوه ليس جديدًا كما ترى، بل عُمل من قبل، وأنكره العلماء، وبيّنوا أنه مبنيٌّ على أصول فاسدة تذهب الدين وتفسده.

يقول الإمام النووي: (لو جاز اتّباع أيّ مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعًا لهواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدي إلى الانحلال من رِبْقَةِ التكليف) ([38]).

فلا شك أن الواجب على الناظر والباحث في النصوص الشرعية أن يخلع على عتبته آراءه الخاصة، ويسلم قياده لهذا النص، يتجه به حيثما توجه، جاعلاً له منهجًا صحيحًا، مراعيًا الشروط والضوابط، واضعًا الأشياء في مواضعها الصحيحة، متجردًا للحق، مبتعدًا عن الهوى والتعصب، جاعلاً الشمولية وجمع الأدلة نهجه ومعلمه، والحق بدليله مقصده، ومن ثم يعرض الأقوال كلها ويقارنها ويحرّرها وينظر الموافق إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة فيتّبعه، وعليه أن لا يصدر الحكم قبل البحث والتحرّي، فإذا أصدر الحكم قبل البحث صار البحث انتقائيًا جزئيًا واستدلالاً للحكم الذي رآه واختاره من قبل، فينبغي أن يستدل أولاً للمسألة، ثم يعتقد وليس له أن يعتقد ثم يستدل تبعًا لرأيه ورغبته، وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في زاد المعاد ([39]). أما الذين يدرسون النصوص لتأييد مقررات سابقة في نفوسهم فإن الغالب عليهم عدم الانتفاع بهذه النصوص، فالإخلاص في طلب الحق شرط أساس لتحصيل الهداية وإدراكها .. والله المستعان.

قال الإمام الشاطبي: (فإن في مسائل الخلاف ضابطًا قرآنيًا ينفي اتّباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول ... ) ([40]).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير