ولا يُشكل على ما سبق -من أنه لم يكن ثمة بيوت على الصفا- ما ذكره بعضهم من أن دار الأرقم كانت على الصفا؛ لأن هذه الدار بجوار الصفا وليست مبنية أعلاه؛ وإطلاق أنها كانت على الصفا تجوّز في العبارة؛ ومرادهم بذلك أنها: عند الصفا، كما قال ذلك غير واحد من المؤرخين (انظر شيئا من النقول في ذلك في التاريخ القويم 1/ 88 - 91)، وهو يقوي ما ذكرته آنفا من شهرة تسمية ما حول الصفا بالصفا.
يقول ابن جبير في رحلته (126) واصفا هذه الدار: (وهي بإزاء الصفا).
ويقول الفاسي في شفاء الغرام 1/ 363: (والصفا هو مبدأ السعي، وهو قرب هذه الدار). وانظر أيضا: تحصيل المرام 1/ 554.
وفي التاريخ القويم للكردي 2/ 88 - 91 تحقيقٌ ونقولٌ في محلها، ووصف لها، وأنها في زقاق على يسار الصاعد إلى الصفا، وبيان المسافة التي بينها وبين الصفا.
الثاني: ذكر بعضهم أن الصفا جبل له أكتاف، إذ لا يُعقل أن يكون له امتداد من الأمام دون الجانبين، ومثل هذا يقال في المروة.
والذين يقولون هذا يتصورون الصفا جبلاً مستقلاً، و يغفلون عن كونه قطعة ملتصقة بجبل أبي قبيس؛ فهو -كما سبق-: "حجرٌ من أبي قبيس"، و"أنفٌ منه"، و"طرفٌ منه"، و"رأس نهايته"، و"مصعدٌ إليه"، و"مكانٌ مرتفعٌ منه" .. وإذا كان كذلك زال الإشكال، ولم يُستبعد كونه كما هو عليه.
والقول في المروة كالقول في الصفا.
الثالث: أن بعضهم قد أشار إلى أن مما يرجح تقديم شهادة الشهود الحاليين أنهم مثبتون، والمتقدمون نافون؛ والمثبت مقدم على النافي.
وأظن أنه مع البيان السابق لن يكون لهذا الكلام محل من القبول.
وأضيف إلى ذلك: أن تطبيق هذه القاعدة (المثبت مقدم على النافي) في هذا الموضوع غير وارد؛ وذلك أن هذه القاعدة إنما تورد إذا أثبت أحد الطرفين ونفى الآخر علمه؛ فيكون المثبت مقدما على النافي؛ وأما مسألتنا هذه فليس قول المانعين فيها من باب نفي العلم؛ بل من باب العلم بالنفي؛ وبينهما فرق شاسع؛ فلا محل للقاعدة إذن.
وتوضيح ذلك: أن كلا الفريقين مثبت؛ هذا يثبت قدرا، وهذا يثبت قدرا أكبر؛ فكلاهما إذن مثبت؛ وليس منهما نافٍ.
على أنه يمكن جوابهم بقولهم -من باب المعارضة- بأن تُعكس القضية؛ فيقال: من أثبت الحد الأدنى أثبت عن علم، والنافي لذلك يقال له: المثبت مقدم على النافي!
الاستدلال الثاني: الاستدلال بامتداد جذور الصفا والمروة في باطن الأرض.
فبعض القائلين بالجواز يستدل بأن الحفريات قد أثبتت أن للصفا والمروة امتدادا في باطن الأرض؛ وبناء عليه فيجوز السعي في التوسعة لكون الساعي قد سعى بين الصفا والمروة في القدر المدفون تحت الأرض.
والجواب: أن هذا الاستدلال فيه من التكلف ما فيه، ولم يأمرنا ربنا أن ننقب في باطن الأرض حتى نمتثل ما شرعه لنا في قوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
ويكفي في رد هذا الكلام المتكلف أن يقال: إذا ثبت أن للصفا والمروة امتدادا في باطن الأرض شرقا وغربا؛ فإن لهما امتدادا –أيضا- شمالا وجنوبا؛ وباتفاقٍ لا يصح أن يقال بأنه يجوز أن ينتقص الساعي من المسافة التي بين الصفا والمروة بحجة أن ثمة امتدادا للصفا في باطن الأرض من جهة الشمال، وامتدادا للمروة من جهة الجنوب؛ فيكون ساعيا بين الصفا والمروة في القدر المدفون تحت الأرض!
فظهر بهذا ضعف هذا الاستدلال.
الاستدلال الثالث: أنه لا تحديد لعرض المسعى في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم.
هكذا ذكر بعضهم؛ وهو كلام ظاهر الضعف بحيث يُستغنى عن رده.
ومع ذلك يقال: أين هذا القائل عن قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)؟ أليس هذا تحديدا واضحا؟ محل السعي بيِّن في هذه الآية؛ وهو ما بين الصفا والمروة، ومن لم يسع بينهما كان ساعيا بجوارهما لا بينهما؛ وهذا خلاف ما في الآية.
ثم هو أيضا المحل الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم) أخرجه مسلم.
ويقال ثالثا: هو المحل الذي أطبق المسلمون على السعي فيه عبر مراحل تاريخهم؛ فهو إجماع عملي لا شك فيه.
¥