ومن العجيب أن المهدي الذي يُنسب إليه نقل المسعى وتوسعته شرقا هو الذي يُنسب إليه بناء هذه الأعلام؛ يقول القلقشندي في مآثر الخلافة 1/ 185 في تعداد مناقب المهدي: (وبنى العلمين اللذين يُسعى بينهما).
وإذا كان حريصا على بقاء الموضع الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام ظاهرا للمسلمين، سالما من التغيير؛ فكيف يُظن به أنه ينقل المسعى عن موضعه؟
وهذه الأميال لم تزل على حالها –بحمد الله- إلى العصر الحاضر قبيل التوسعة السعودية الأولى، انظر وصفها لحسين باسلامة في تاريخ عمارة المسجد الحرام 303، ثم وضع محلها هذه العلامات الظاهرة الآن في سقف المسعى وجوانبه.
ويتأيد هذا بوجه آخر: وهو أن المتتبع لكلام العلماء في هذا الباب يقطع بأنهم أشد ما يكونون حرصا على الالتزام بالهدي النبوي، ومن ذلك جعلهم المشاعر –ومنها المسعى- أماكن توقيفية؛ ومن ذلك أنهم نصوا على أن على الساعي أن يسعى قبل وصوله الميل بستة أذرع حتى يطابق محل السعي الذي جرى فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام -كما نص على هذا الشافعي وغيره من أهل العلم، انظر: مختصر المزني 76، والمغني لابن قدامة 5/ 236، وشرح العمدة لابن تيمية 2/ 465، ومواهب الجليل 4/ 156 وغيرها من كتب الفقه- هذا مع كون الهرولة سنة ومن تركها فليس عليه شيء في قول جماهير أهل العلم؛ فأين تنبيههم على محل المسعى النبوي عرضا لو كان ثمة تغيير شرقا أو غربا؟
والخلاصة المستفادة مما سبق: أن المستدل بهذه القصة إن استدل بها على أن المسعى قد نُقل بالكامل عن موضعه؛ فهو استدلال باطل.
وإن قال: إن موضع الهرولة قد تغير موضعه بالكامل؛ فهو أيضا قول باطل.
وإن قال: إن موضعا يسيرا في محل الهرولة قد حصل فيه تغيير؛ فهذا ليس مسلما؛ بل يلفه شيء من الشك؛ وعليه فلا يصلح مستمسكا في هذه القضية الشرعية بالغة الأهمية.
رابعا: أنه على تسليم حصول هذا التغيير، وأن جزءا من المسعى –في محل الهرولة- جُعل في دار ابن عباد؛ فإن هذا ليس فيه ما يدل على جواز تغيير محل هذه العبادة التوقيفي، أو أن هذا التغيير قد حصل بالفعل؛ وإنما غاية ما هنالك أنه أزيل بناء كان قائما في محل يُشرع السعي فيه.
وكأني بدار ابن عباد هذه مشابهة في حالها لدار آل الشيبي التي أزيلت في العصر الحديث –خلال التوسعة السعودية الأولى- والتي كان محلها بين موضع السعي من جهة الصفا وبين الشارع العام الملاصق للمسجد الحرام مما يلي باب الصفا (انظر: فتاوى الشيخ ابن إبراهيم 5/ 139) وكان قرار اللجنة الذي وافق عليه سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (ولا بأس من السعي في موضع دار الشيبي لأنها على مسامتة بطن الوادي بين الصفا والمروة) 5/ 143 - 144.
والخلاصة: أن جعل المسعى في دار ابن عباد لم يُخرج هذا الموضع من المسعى عن الحد الشرعي فيما بين الصفا والمروة قطعا، والمطلوب شرعا السعي بين الصفا والمروة وليس الموضع الذي سعى فيه عليه الصلاة والسلام على وجه الخصوص، وهذا حاصل بعد هذا التغيير –إن كان-؛ فلم يزل الناس يسعون بين الصفا والمروة كما كان الأمر قبل توسعة المهدي ولم يتغير شيء من ذلك البتة.
يوضح ذلك: أن الدرج التي على الصفا وعلى المروة قد بنيت قبل المهدي –في عهد والده أبي جعفر المنصور- وفي هذا يقول الأزرقي 2/ 102: (حتى كان عبد الصمد بن علي في خلافة أبي جعفر المنصور فبنى درجهما التي هي درجهما).
ويقول الفاكهي 2/ 245: (فدرجهما إلى اليوم قائمة).
فهذه الدرج بقيت على موضعها بعد التغيير المذكور –إن صح- ولم تزل كذلك إلى ما قبل التوسعة السعودية الأولى؛ وهي شاهد صدق على أن المسلمين لم يكونوا يسعون إلا في هذا المسعى المعروف بين الصفا والمروة، وأن المسعى لم يخرج عن كونه بين الصفا والمروة؛ فالساعي كان ينزل من هذه الدرج التي على المسعى قاصدا المروة قبل توسعة المهدي، واستمر الأمر كذلك بعد التوسعة وإلى التوسعة السعودية الأولى، بل وإلى اليوم؛ فالمسعى هو هو بحمد الله.
وهذا دليل آخر على أن المسلمين لم يزالوا محافظين على محل هذه الشعيرة دون زيادة أو نقصان.
ويؤيده –أيضا- أن الإجماع قد قام على صحة السعي في هذا المسعى المعروف الذي توارثه الناس مع وقوع هذا التعديل الطفيف فيه إن صح ذلك.
¥