ومن الإنصاف أن نقول بأن هذه المعارضة الفقهية المتأخرة لا تصلح مبرراً للاستنكار والتعنيف، والتطاول على أقدار الفقهاء المخالفين، والواجب شرعاً احترام الخلاف والتأدب مع ورثة الأنبياء وإن كانت الفتوى في نظرناً مجانبة للصواب فإن المسألة اجتهادية ولا إنكار فيها على المخالف.
وقد ألحّ عليّ بعض أهل الفضل والمكانة بالكلام عن المسألة، وبيان وجهة نظري الفقهية، فأقول مستعيناً بالله:
إن العبادات التي شرعها الله تعالى نوعان:
الأول: عبادات مطلقة من حيث المكان، بمعنى أن الله تعالى شرعها للناس دون أن يربطها بأماكن مخصوصة مثل الأذكار المطلقة والصلوات الخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجداً وظهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته" متفق عليه.
الثاني: عبادات مقيدة بأماكن مخصوصة بحيث لا تؤدى إلاّ في مكان معين، مثل الطواف فإنه عبادة مرتبطة بالبيت الحرام (وليطوّفوا بالبيت العتيق) ومثل الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى، ولهذا جاء في الموطأ أن عمر رضي الله عنه كان يقول: "لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة" وكان يبعث رجالاً يُدخِلون الناس من وراء العقبة، أي إلى منى، لأن العقبة ليست من منى، بل هي حدى منى من جهة مكة، فهذه عبادات يلزم التقيد فيها بالمكان الذي حدده الشرع دون تغيير.
ومن ذلك السعي، فإنه عبادة مرتبطة بالصفا والمروة، كما قال تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم). وقوله (من شعائر الله) أي من معالم الله التي جعلها مشعراً للناس يعبدونه عندها كما قاله الإمام ابن جرير الطبري، فالسعي مخصوص بهذا المكان، والآية خبر في الظاهر ولكنها أمر في الباطن.
قالت عائشة رضي الله عنها: "طاف رسول الله وطاف المسلمون يعني بين الصفا والمروة، فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة" متفق عليه.
وبناءً على ذلك فالواجب هو إيقاع السعي بين الجبلين، بحيث لا يخرج المحرم عن محاذاة الجلبين من جهة العرض، كما يجب عليه استيعاب المسافة بينهما من جهة الطول، وقدرها بعض الفقهاء قديماً بـ 777 ذراعاً وقيل غير ذلك.
وينبغي التنبيه إلى أن تحديد العرض بالمحاذاة والمسامتة هو من باب التقريب وليس من باب التحديد الدقيق، ولهذا قال بعض الفقهاء: "لا يضر الالتواء اليسير" أي الخروج اليسير عن المحاذاة، ويؤيده أن الأصل هو التسامح والتيسير في الشيء اليسير.
وهذا الجانب النظري متفق عليه بين المختلفين، وإنما وقع الخلاف في التوسعة الجديدة من جهة أن المسعى الجديد هل هو داخل في البينية ومحاذاة الجبلين أو هو خارج عن السمت والمحاذاة؟ فمن رأى التوسعة الجديدة خارجة عن السمت والمحاذاة من جهة العرض أنكر التوسعة الجديدة ومنع من السعي فيها، ومن رآها داخلة في المحاذاة والبينية لم ينكر التوسعة الجديدة وأجاز السعي فيها.
وهذا الخلاف في تحقيق المناط كما يعبر عنه الأصوليون، والمقصود به كما يقول الشاطبي: "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى الحكم في تعيين محله" وذلك مثل الاتفاق على وجوب استقبال القبلة في صلاة الفريضة ثم يقع النظر أو الخلاف في تحديد جهة القبلة.
والخلاف في تحقيق المناط هو من جنس الخلاف في المسائل الاجتهادية التي لا يجوز فيها الإنكار على المخالف، وليس في المسألة دليل قاطع يجب المصير إليه.
ولكن القدر الثابت من الناحية التاريخية والجغرافية هو أن جبلي الصفا والمروة كانا أكبر حجماً مما هو مشاهد اليوم وكانت عليهما مساكن وبيوت، كما روى الحاكم في المستدرك أن دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه كانت على الصفا ثم تصدق بها على ولده لا تباع ولا تورث حتى أخذها أبو جعفر المنصور وكانت مشرفة على المسعى حتى قال يجيى الأرقم: " والله لأعلم اليوم الذي وقع في نفس أبي جعفر، إنه يسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار فيمر تحتنا لو أشاء آخذ قلنسوته لأخذتها وإنه لينظر إلينا من حين هبط الوادي حتى يصعد حتى يصعد إلى الصفا .. ".
¥