ثالثا: دعوى التعارض بين الأحاديث
لا يمكن أن يوجد دليلان صحيحان من حيث الثبوت، صريحان من حيث الدلالة يناقض أحدهما الآخر مناقضة تامة واضحة بحيث يتعذر الجمع والترجيح بينهما بحال من الأحوال.
والقول بوجود تناقض بين أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إما أن يأتي من عدم المعرفة بعلم الحديث، بحيث لا يميز القارئ بين الصحيح من غيره، فيورد التعارض بين أحاديث لا أصل لها، أو يعارض حديثا صحيحاً بآخر مختلق موضوع، وإما أن يأتي من عدم الفهم وضعف الفقه في حقيقة المراد بالنص.
وقد كان الإمام ابن خزيمة رحمه الله - وهو ممن اشتهر عنه الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض - يقول: " لا أعرف حديثين متضادين، ومن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما ".
تدريب الراوي (2
196)
و هذه التهمة في الحقيقة ليست جديدة، فقد وجهها بعض أهل الأهواء إلى المحدثين من قديم، وتصدى للرد عليهم أئمة الإسلام في ذلك الحين ومنهم الإمام ابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب " تأويل مختلف الحديث " حيث تكلم في مقدمة كتابه عن الباعث له على تأليف هذا الكتاب، وكان مما ذكر ما وقف عليه من ثلب أهل الكلام لأهل الحديث وامتهانهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف، وكثرت النحل ....... إلخ.
ثم تبعهم على ذلك المستشرقون ومقلدوهم الذي رددوا هذه الدعاوى مغفلين أو متغافلين أصول المحدثين وقواعدهم في التعامل مع مثل هذا النوع من الأحاديث
والواقع أن وجود تعارض في الظاهر بين بعض النصوص ليس بالأمر المستغرب، ما دام فيها ما ليس منه بد من عام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومفسِّر، ومنسوخ وناسخ يرفع حكمه، وليس بالضرورة أن يكون مردُّه إلى الوضع، وقد ذكر العلماء وجوهاً كثيرة لأسباب اختلاف الحديث:
- منها تعدد وقوع الفعل الذي حكاه الصحابي مرتين في ظرفين مختلفين فيحكي هذا ما شاهده في ذلك الظرف، ويحكي الثاني ما شاهده في ظرف آخر كحديثي (الوضوء من مس الذكر)، و (هل هو إلا بضعة منك).
- ومنها أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم- الفعل على وجهين إشارة إلى الجواز، كأحاديث صلاة الوتر أنها سبع أو تسع أو إحدى عشرة.
- ومنها اختلافهم في حكاية حال شاهدوها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل اختلافهم في حجة الرسول، هل كان فيها قارناً أو مفرداً أو متمتعاً، وكل هذه حالات يجوز أن يفهمها الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن نية القران أو التمتع أو الإفراد مما لا يطلع عليه الناس.
- ومنها أن يسمع الصحابي حكماً جديداً ناسخاً للأول، ولا يكون الثاني قد سمعه، فيظل يروي الحكم الأول على ما سمع، إلى غير ذلك من الأسباب.
ومع ذلك فقد تعامل المحدثون مع هذا النوع من الأحاديث، ووضعوا له القواعد والقوانين التي تكفل عدم وجود تعارض أو تناقض بين أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما عرف بعلم " مختلف الحديث "، وهو علم جليل القدر، عظيم المنفعة، يحتاج إليه العالم والفقيه، ولا يمهر فيه إلا من وسع علمه ودق فهمه وثقب رأيه.
وهذه القواعد والضوابط هي من صميم منهج المحدثين في النقد، ولها اتصال وثيق ومباشر بشروط قبول الحديث نفسها، ولذلك تفرع عنها أنواع من علوم الحديث كالشاذ والمحفوظ، والمنكر والمعروف، والناسخ والمنسوخ، والمضطرب والمعلل.
وقد عُني العلماء بأوجه الترجيح وأنواعها، وتقصوها بجزئياتها وكلياتها حتى زادت جزئياتها على مئة وجه من أوجه الترجيح كما ذكر الإمام العراقي، وجميعها يرجع إلى سبعة أقسام كلية ذكرها السيوطي في تدريب الراوي، كالترجيح بحال الراوة، ووجوه التحمل، وكيفية الرواية، ولفظ الخبر، والترجيح بأمر خارجي، إلى غير ذلك من وجوه الترجيح.
ولم يكتف العلماء بتأصيل القواعد والضوابط في هذا الباب، بل درسوا هذه الأحاديث دراسة تفصيلية، فتناولوا كل حديث بالشرح، وأجابوا عن الإشكالات التي قد ترد عليه وعلى النصوص الأخرى، وذلك في شروحهم الحافلة التي صنفوها على كتب السنة، وأفردوا لهذا اللون من الأحاديث مؤلفات خاصة، جمعت الأحاديث المشكلة والتي ظاهرها التعارض، مبينين وجه الصواب فيها بما يزيل أي إشكال ...
عن كتاب ”رد شبهات حول السنة المطهرة بالتعاون مع اللجنة العالمية لنصرة خاتم المرسلين"
¥