وقال تعال في حفصة وعائشة رضي الله عنهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا سورة التحريم آية رقم 4 , أي مالت قلوبكما إلى أمر تعلمان أنه صلى الله عليه وسلم يكرهه , سواء قلنا إنه تحريم شرب العسل الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه , أو قلنا إنه تحريم جاريته مارية , فقوله صغت قلوبكما أي مالت يدل على أن الإدراك وقصد الميل المذكور محله القلب , ولو كان الدماغ لقال صغت أدمغتكما كما ترى.
ولما ذكر كل من اليهود والمشركين أن محل عقولهم هو قلوبهم قررهم الله على ذلك لأن كون القلب محل العقل حق , وأبطل دعواهم من جهة أخرى , وذلك يدل بإيضاح على أن محل العقل القلب.
أما اليهود لعنهم الله فقد ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: (وقولهم قلوبنا غلف) فقال تعالى وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) سورة النساء , فقولهم قلوبنا غلف بسكون اللام يعنون أن عليها غلافاً , أي غشاءً يمنعها من فهم ما تقول , فقررهم الله على أن قلوبهم هي محل الفهم والإدراك , لأنها محل العقل , ولكن كذبهم في ادعائهم أن عليها غلافاً مانعاً لها من الفهم , فقال – على سبيل الإضراب الإبطالي – بل طبع الله عليها بكفرهم.
أما على قراءة ابن عباس: (قلوبنا غُلُفٌ) بضمتين يعنون أن قلوبهم كأنها غلاف محشو بالعلوم والمعارف , فلا حاجة لنا إلى ما تدعوننا إليه , وذلك يدل على علمهم بأنه محل العلم والفهم القلوب لا الأدمغة.
وأما المشركون فقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) سورة فصلت , فكانوا عالمين بأن محل العقل القلب , ولذا قالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه , ولم يقولوا: أدمغتنا في أكنة مما تدعونا إليه , والله لم يكذبهم في ذلك , ولكن وبخهم على كفرهم بقوله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) سورة فصلت , وهذه الآيات التي أُطلق فيها القلب مراداً به العقل , لأن القلب هو محله أوضح الله المراد منها بقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) سورة الحج , فصرح بأنهم يعقلون بالقلوب , وهو يدل على أن محل العقل القلب دلالة لا مطعن فيها كما ترى.
وقال تعالى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ سورة الشورى آية رقم 24 , ولم يقل يختم على دماغك.
وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) سورة الأنعام , ولم يقل وختم على أدمغتكم.
وقال تعالى في النحل: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) , وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) سورة الحجرات , ولم يقل امتحن أدمغتهم.
وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ سورة الحجرات آية رقم 7 , والآيات بمثل هذا كثيرة ولنكتف منها ما ذكرنا خشية الإطالة المملة.
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب فهي كثيرة جداً: كالحديث الصحيح الذي ذُكر والذي فيه (ألا وهي القلب) ولم يقل فيه ألا وهي الدماغ , وكقوله صلى الله عليه وسلم (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك , وكقوله صلى الله عليه وسلم (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) وهو من أحاديث الصفات , ولم يقل: دماغ المؤمن 000 إلخ.
¥