شرعي ديني وخشي الإنسان على دينه لا على دنياه فإنه له أن يتمنى الموت. ومن ذلك تمني الشهادة, والشهادة موت, والنبي عليه الصلاة والسلام قال: والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل. وقوله (فإن كان لا بد متمنياً) يعني لم يحتمل المصيبة التي يعيشها (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) لأنه لا يعلم الغيب, فيكل الأمر إلى الله جل وعلا ويجعل الخيرة له سبحانه وتعالى يختار له ما يصلح له في دينه ودنياه.
يجوز أن يكون الإنسان سبباً في قتله إذا كانت المصلحة راجحة, مثل أن يقتحم صفاً, أو ينزل في بكرة من حصن على الكفار ويغلب على الظن أنه يقتل, أو يدل العدو على كيفية قتله كما في قصة الغلام التي هي في شرع من قبلنا لكنها سيقت مساق المدح في شرعنا. وأما أن يباشر قتل نفسه فلا أعلم في النصوص ما يدل على جوازه مهما كان المبرر, وفرقٌ بين التسبب والمباشرة, وعلى كل حال هناك من يفتى في هذه المسائل بأن الإنسان له أن يقتل نفسه إذا ترجحت المصلحة لا سيما المصلحة العامة, فلو خشي إفشاء الأسرار للكفار اتجه القول بجواز أن يباشر قتل نفسه عند بعض أهل العلم. ومثل ذلك العمليات التي يختلفون فيها, فمن أهل العلم من أجازها لأنه رأى أن فيها نكاية بالعدو وأنه لا وسيلة لتحصيل الحقوق إلا بها, وأما أنا فلا أعرف نصاً يبيح ذلك, والمسألة اجتهادية, لأنه وُجِد في النصوص ما يبيح التسبب مما يقرب من المباشرة كما في قصة الغلام, فإنه كان يقول لهم (خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني) وكانت المصلحة راجحة, ولم يباشر قتل نفسه, لكنه تسبب تسبباً قريباً من المباشرة.
جاء في الحديث الدعاء بقوله (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) وهذا من الخوف على الدين, وجاء أيضاً قول يوسف عليه السلام (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) وهذا فيه طلب الوفاة لكن لا مطلقاً, وإنما طلب الوفاة على الإسلام, ولا يلزم من ذلك أن تكون الوفاة الآن أو قريباً من الآن, بل يطلب أن يكون مسلماً حال وفاته, فلا تعارض, وكلٌ يدعو ربه ويتمنى أن يموت على الإسلام ولو بعد حين.
ذم طول الأمل هل فيه مخالفة مع النهي عن تمني الموت؟ دعاء الإنسان لنفسه بطول العمر يقابل تمني الموت, فهل مفهوم النهي عن تمني الموت أن يدعو الإنسان بطول العمر؟ أو يترك الأمر لله جل وعلا ويعمل ما أُمِر به؟ ولذا جاء ذم طول الأمل, كما في قوله (يشب ابن آدم ويشب منه خصلتان حب الدنيا وطول الأمل) بل جاء ما يدل على تقصير الأمل, وفرق بين أن يسعى في تقصير عمره وبين أن يعمل على مقتضى قصر عمره, فإن ما يقتضيه قصر العمر اغتنام الوقت, وما يقتضيه طول الأمل التفريط في الأوقات, فنظراً لما يقتضيه الأمران استُحِب هذا وذُمَّ هذا, ولذا جاء في الحديث الصحيح (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) لأن تصور الإنسان أنه غريب يحدوه إلى مضاعفة جهده في كسب الحسنات والابتعاد عن السيئات.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {اَلْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ} رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
لم يخرِّج أبو داود هذا الحديث, وإنما خرَّجه الترمذي والنسائي وابن ماجه, وهذا يرد على اصطلاحه في الثلاثة. وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود وغيره, وهو قابل للتصحيح بشاهده.
وقوله عليه الصلاة والسلام (المؤمن يموت بعرق الجبين) عبارةٌ عما يكابده المؤمن عند نزع روحه, وذلك لما له من عِظَم الأجر عند الله تعالى. قال ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك توعك وعكاً شديداً, فقال عليه الصلاة والسلام: أجل, إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم, قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين, قال: أجل. فكل ما زادت منزلة المرء عن الله جل وعلا زادت المشقة عليه أثناء النزع ليعظم أجره, والموت له سكرات. ومنهم من يرى أن تفسير الحديث أن المؤمن ينصب ويتعب في هذه الدنيا في طلب الحلال مع تعبه لدينه, وأمر الدنيا إذا اقترنت به النية الصالحة أُجِر عليه الإنسان وصار من أمر الآخرة. فالمؤمن يعرق جبينه في أمور دنياه وآخرته, وإذا جاءه النزع ضوعفت عليه الشدة ليزداد أجره بذلك. وكأن في
¥