وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
ولرد هذه الشبهة يقال:
قال ابن بدران رحمه الله في المدخل:
العقد الثاني في السبب الذي لأجله اختار كثير من كبار العلماء مذهب الإمام أحمد على مذهب غيره:
هذا العقد له مدخل عظيم لمن يريد التمذهب بمذهب أحمد وما ذلك إلا لأن الداخل على بصيرة في شيء أعقل من الداخل فيه على غير بصيرة وأبعد عن التعصب والتقليد المحض وكل إنسان يختار لمطعمه وملبسه وحوائجه الضرورية فلأن يختار ويحتاط لدينه أولى.
ولما كان المقلد لا رأي له ولا ترجيح وإنما نصيبه من العلم أن يقول قالوا فقلنا، أثبتنا له هذا العقد ليتزين به ونصبنا له هذا السلم أملًا بأنه إن ترك التعصب الذميم والجهل المركب ارتقى قليلًا إلى درجات أوائل العلم ولاح له لمعان من نور الهدى فيجره اختيار المذهب إلى اختيار بعض الفروع بالدليل والبرهان فيكون حينئذ من المفلحين ويتزحزح عن نار الغفلة والتقليد الأعمى المذموم على لسان كل عاقل له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإليك بيان ما نوهنا به وأشرنا إليه:
قال الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي أحد المجتهدين في مذهب أحمد في كتاب «المناقب» في الباب السابع والتسعين منه:
اعلم وفقك الله أنه مما يتبين الصواب في الأمور المشتبهة لمن أعرض عن الهوى والتفت عن العصبية وقصد الحق بطريقه ولم ينظر في أسماء الرجال ولا في صيتهم فذلك الذي ينجلي له غامض المشتبه فأما من مال به الهوى فعسير تقويمه.
واعلم أننا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين فرأينا هذا الرجل يعني الإمام أحمد أوفرهم حظا من تلك العلوم فإنه كان من الحافظين لكتاب الله عز وجل وقرأه على أساطين أهل زمانه وكان لا يميل شيئا في القرآن ويروي قوله صلى الله عليه و سلم «أنزل القرآن فخمًا ففخموه»
وكان لا يدغم شيئًا في القرآن إلا «اتخذتم» وبابه كأبي بكر، ويمد مدا متوسطا.
وكان رضي الله عنه من المصنفين في فنون علوم القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر في القرآن وجوابات القرآن والمسند وهو ثلاثون ألف حديث وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إمامًا.
والتاريخ وحديث شعبة والمناسك الكبير والصغير وأشياء أخر.
وقال عبد الله: قرأ علينا أبي المسند وما سمعه منه غيرنا وقال لنا: هذا كتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فارجعوا إليه فإن وجدتموه فيه وإلا فليس بحجة.
قال ابن الجوزي: وأما النقل فقد سلم الكل له بانفراده فيه بما لم ينفرد به سواه من الأئمة من كثرة محفوظه منه ومعرفة صحيحة من سقيمه وفنون علومه وقد ثبت أنه ليس في الأئمة الأعلام قبله من له حظ في الحديث كحظ مالك ومن أراد معرفة مقام أحمد في ذلك من مقام مالك فلينظر فرق ما بين المسند والموطأ.
وقال ابنه عبد الله: سمعت أبا زرعة يقول كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث بتكرير الألف مرتين. فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.
وقيل لأبي زرعة: مَن رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حزمت كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر حملا وعدلا ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان وفي بطنها حدثنا فلان وكل ذلك كان يحفظه أحمد عن ظهر قلبه.
قال ابن الجوزي: وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة ومن نظر في كتاب العلل لأبي بكر الخلال عرف ذلك ولم يكن هذا لأحد من بقية الأئمة.
وكذلك انفراده في علم النقل بفتاوى الصحابة وقضاياهم وإجماعهم واختلافهم لا تنازع في ذلك.
وأما علم العربية فقد قال أحمد: «كتبت من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو الشيباني».
وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه.
قال أبو القاسم بن الجَبُّلي: أكثر الناس يظنون أن أحمد إنما كان أكثر ذكره لموضع المحبة وليس هو كذلك كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كان علم الدنيا بين عينيه.
¥