وقال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة لن يرى الناس مثلهم أبدًا وتعجز النساء أن يلدن مثلهم رأيت أبا عبيد القاسم ابن سلام فما مثلته إلا بجبل نفح فيه روح ورأيت بشر بن الحارث فما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا ورأيت أحمد بن حنبل فرأيته كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء.
وقال أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد.
قال الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها، وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم فتكلم عن معرفة.
قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي: ومن عجيب ما نسمعه عن هؤلاء الجهال أنهم يقولون أحمد ليس بفقيه لكنه محدث وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاركهم وربما زاد على كبارهم.
ثم ذكر ابن عقيل مسائل دقيقة مما استنبطه الإمام، ثم قال: ومما وجدنا من فقه الإمام أحمد ودقة علمه أنه سئل عن رجل نذر أن يطوف بالبيت على أربع قال يطوف طوافين ولا يطوف على أربع.
فانظروا إلى هذا الفقه كأنه نظر إلى المشي على أربع فرآه مُثلة وخروجًا عن صورة الحيوان الناطق إلى التشبيه بالبهائم، فصانه، وصان البيت والمسجد عن الشهرة ولم يبطل حكم القضية في المشي على اليدين بل أبدلها بالرجلين اللتان هما آلة المشي.
ثم ذكر مسائل من هذا القبيل، ثم قال: ولقد كانت نوادر أحمد نوادر بالغة في الفهم إلى أقصى طبقة، قال: ومَن هذا فقهه واختياراته لا يحسن بالمنصف أن يغض منه في هذا العلم وما يقصد هذا إلا مبتدع قد تمزق فؤاده من خمول كلمته وانتشار علم أحمد حتى إن أكثر العلماء يقولون أصلي أصل أحمد وفرعي فرع فلان فحسبك ممن يرضى به في الأصول قدوة.
قال ابن الجوزي: إن أحمد ضم إلى ما لديه من العلم ما عجز عنه القوم من الزهد في الدنيا وقوة الورع ولم ينقل عن أحد من الأئمة أنه امتنع من قبول أوقاف السلاطين وهدايا الإخوان كامتناعه ولولا خدش وجوه فضائلهم رضي الله عنهم لذكرنا عنهم ما قبلوا ورخصوا بأخذه.
وقد عقد ابن الجوزي في مناقبه بابًا خاصا في بيان زهده في المباحات.
ثم إنه ضم إلى ذلك الصبر على الامتحان وبذل المهجة في نصرة الحق ولم يكن ذلك لغيره. وقد أخرج أبو نعيم الحافظ عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال قال لي محمد بن الحسن صاحبنا أعلم أم صاحبكم؟ قلت: تريد المكابرة أم الإنصاف؟ قال: بل الإنصاف.
فقلت له: فما الحجة عندكم؟ قال: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
قال: قلت: أنشدك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ فقال: إذا أنشدتني بالله فصاحبكم. قلت: فصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم. قلت: فصاحبكم أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم. قلت: فبقي شيء غير القياس؟ قال: لا. قلت: فنحن ندعي القياس أكثر مما تدعونه، وإنما يقاس على الأصول فيعرف القياس. قال: ويريد بصاحبكم مالكًا.
قال ابن الجوزي: فقد كفانا الشافعي رضي الله عنه بهذه الحكاية المناظرة لأصحاب
أبي حنيفة، وقد عرف فضل صاحبنا على مالك فإنه حصّل ما حصّله مالك وزاد عليه كثيرا وقد ذكرنا شاهد هذا باعتبار المسند مع الموطأ.
وقد كان الشافعي عالما بفنون العلوم إلا أنه سلم لأحمد علم النقل الذي عليه مدار الفقه.
وقد روى ابن الجوزي عن عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول: قال لي الشافعي: أنتم أعلم بالحديث منا فإذا صح الحديث فقولوا لنا حتى نذهب إليه.
وأخرج هذه الحكاية الطبراني وأبو نعيم الحافظ.
وروى الطبراني أن أحمد كان يقول: استفاد منا الشافعي ما لم نستفد منه.
وأخرج الحافظ ابن عساكر عن الحسن بن الربيع أنه قال: أحمد إمام الدنيا. وقال: لولا أحمد لأحدثوا في الدين. وقال: إن لأحمد أعظم منة على جميع المسلمين وحق على كل مسلم أن يستغفر له.
قلت: وقد ذكرنا كثيرًا من مناقبه في كتابنا تهذيب تاريخ ابن عساكر.
قال ابن الجوزي: قلت: فهذا بيان طريق المجتهدين من أصحاب أحمد لقوة علمه وفضله الذي حث على اتباعه عامة المتبَعين ... قلت وهذا باب واسع جدا.
¥