وذكر ابن الجوزي من هذا كثيرًا، ثم قال: هذا قدر الانتصار لاختيارنا لمذهب أحمد ورحمة الله على الكل وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وكان الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي يقول: هذا المذهب يعني: مذهب أحمد إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع أحمد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات فكانت الولاية سببًا لتدريسه واشتغاله بالعلم، فأما أصحاب أحمد فإنه قل فيهم من يعلم بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم فينقطعون عن التشاغل بالعلم. اهـ.
وقال الذهبي معلقا على هذه المقولة النكراء:
قلت: أحسبهم يظنونه كان محدثا وبس، بل يتخيلونه من بابة محدثي زماننا.
ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف. وفي الزهد والورع رتبة الفضيل، وإبراهيم بن أدهم. وفي الحفظ رتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني.
ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟! اهـ.
أقول: وفي محنة ابن جرير الطبري مع الحنابلة وهي مشهورة قال ابن جرير رحمه الله معللًا عدم ذكر أحمد في "اختلاف الفقهاء" بأنه ما رآه رُوي عنه ولا رأى له أصحابا يعول عليهم.
ففهم بعض الجهال أن ابن جرير ينفي كون أحمد فقيهًا، مع أن الرجل لم يُرد ذلك، وإنما أراد أنه لم يجد له أتباعًا في الفروع فأراد أنه ليس فقيهًا متبوعًا، فهو كالليث بن سعد مثلًا في هذا مع أنه أفقه من مالك. وهذا حق في زمان ابن جرير فإن فقه أحمد لم يكن قد دون في حياته فقد توفي ابن جرير سنة 310 هـ، وتوفي الخلال جامع فقه أحمد سنة 311هـ.
والخرقي صاحب أول متن في المذهب متوفى سنة 334هـ، وإنما بدأ اشتهار إقراء المذهب في بدايات القرن الخامس الهجري أي بعد وفاة ابن جرير بنحو قرن من الزمان.
وكون أحمد ليس من الفقهاء المتبوعين في زمان ابن جرير ليس قدحًا في أحمد، فكم من فقيه غير مشهور وهو أفقه من كثير من المشهورين! لكن قضى الله تعالى -ولا راد لقضائه- أن يجمع لأحمد بن حنبل بين العلم المكين والشهرة فحصل له ذلك، ولكن بعد زمان ابن جرير.
ثم قول القائل الغر: " أحمد ليس بفقيه" إن أراد: فقه أهل الرأي الذي لم يبن على الدليل، وهو الذي ذمه أحمد وذم أتباعه كما ذمهم أئمة أهل الحديث، فمراده حق، وتلك منقبة لأحمد إذ برأه الله من طريقة أهل الرأي المتهوكين وقد اطلع على كتبهم وأعرض عنها بعد ذلك كما سبق.
وكلام أحمد في ذم أهل الرأي كثير مشهور.
وقد كان يرجح أصول أهل الحديث ومذهبهم على مذاهب أهل الرأي قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في المجموع 34/ 113:
«وموافقته للشافعي وإسحق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظمهما ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما. ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما. وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة "إجارة بيوت مكة "، والقصة مشهورة، وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحق بالحجة في موضع وأن إسحق علاه بالحجة في موضع فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة وإسحق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها ومع إسحق في المنع من إجارتها».
وإن أراد بقوله «ليس بفقيه»: أي الفقه المعتبر عند أهل العلم، فقد نادى على نفسه بالجهل والانحطاط والتعصب وصار:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ولسان حال أحمد بن حنبل:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
فلا زال غضباناً علي لئامها
وقد شهد له بالفقه أشياخه وأقرانه وتلاميذه ومن بعدهم، وثناؤهم تسطر منه مجلدات، ومن المشهور قول الشافعي الإمام فيما رواه عنه الربيع بن سليمان: «أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة».
وعلى كل حال؛ فهذه شبهة ساقطة، وقد ردها أهل العلم، ومن رام المزيد من ذلك فليطالع طبقات الحنابلة، ومناقب أحمد لابن الجوزي، والمدخل المفصل للشيخ بكر.
ـ[الحنبلي السلفي]ــــــــ[21 - 08 - 09, 08:25 م]ـ
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي 20/ 228 بعد كلام له عن الروايات في مذهب أحمد وكيف يعرف الراجح منها:
¥