وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب ; لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان. وأما المعقول: فهو أن فعله إما أن يكون راجحا على العدم، أو مساويا له، أو دونه، والأول متعين ; لأن الثاني والثالث مستلزمان أن يكون فعله عبثا، وهو باطل، وإذا تعين أنه راجح على العدم، فالراجح على العدم قد يكون واجبا وقد يكون مندوبا، والمتيقن هو الندب.
وأجيب عن الآية: بأن التأسي هو إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه، فلو فعله واجبا، أو مباحا، وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي.
وأجيب عن الإجماع: بأنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل ; لاحتمال أنهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر.
وأجيب عن المعقول: بأنا لا نسلم أن فعل المباح عبث ; لأن العبث هو الخالي عن الغرض، فإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثا بل من حيث حصول النفع به خرج عن العبث، ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومتابعة أفعاله بين، فلا يعد من أقسام العبث.
القول الثالث: أنه للإباحة، قال الرازي في المحصول: وهو قول مالك ولم يحك الجويني قول الإباحة هاهنا ; لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين، لكن حكاه غيره كما قدمنا عن الرازي، وكذلك حكاه ابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب حملا على أقل الأحوال.
واحتج من قال بالإباحة: بأنه قد ثبت أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز أن يكون صادرا على وجه يقتضي الإثم ; لعصمته، فثبت أنه لا بد أن يكون إما مباحا أو مندوبا أو [ص: 145] واجبا، وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل، فأما رجحان الفعل فلم يثبت على وجوده دليل، فثبت بهذا أنه لا حرج في فعله، كما أنه لا رجحان في فعله، فكان مباحا وهو المتيقن، فوجب التوقف عنده وعدم مجاوزته إلى ما ليس بمتيقن.
ويجاب عنه: بأن محل النزاع - كما عرفت - هو كون ذلك الفعل قد ظهر فيه قصد القربة، وظهورها ينافي مجرد الإباحة، وإلا لزم أن لا يكون لظهورها معنى يعتد به.
القول الرابع: الوقف. قال الرازي في المحصول: وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار انتهى. وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحاب الشافعي، وحكاه أيضا عن الدقاق واختاره القاضي أبو الطيب الطبري، وحكاه في اللمع عن الصيرفي وأكثر المتكلمين.
وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه قصد القربة فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها، والمتيقن مما هو فوقها الندب.
وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة، بل كان مجردا مطلقا، فقد اختلفوا فيه بالنسبة إلينا على أقوال:
الأول: أنه واجب علينا، وقد روي هذا عن ابن سريج قال الجويني: وهو كذلك في النقل عنه، وهو أجل قدرا من ذلك، ولكن حكاه ابن الصباغ عن الإصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة والطبري وأكثر متأخري الشافعية.
وقال سليم الرازي إنه ظاهر مذهب الشافعي، واستدلوا بنحو ما استدل به القائلون بالوجوب مع ظهور قصد القربة.
[ص: 146] ويجاب عنهم: بما أجيب به عن أولئك، بل الجواب عن هؤلاء بتلك الأجوبة أظهر ; لعدم ظهور قصد القربة في هذا الفعل، وقد اختار هذا القول أبو الحسين بن القطان والرازي في المعالم. قال القرافي: وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية، ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق.
القول الثاني: أنه مندوب. قال الزركشي في البحر وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة، ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير. قال الروياني: هو قول الأكثرين، وقال ابن القشيري في كلام الشافعي ما يدل عليه.
قلت: هو الحق ; لأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يظهر فيه قصد القربة، فهو لا بد أن يكون لقربة، وأقل ما يتقرب به هو المندوب، ولا دليل يدل على زيادة على الندب، فوجب القول به، ولا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة، فإن إباحة الشيء [ص: 147] بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل ورود الشرع به، فالقول بها إهمال للفعل الصادر منه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو تفريط، كما أن حمل فعله المجرد على الوجوب إفراط، والحق بين المقصر والمغالي.
¥