إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه.
وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره.
قال الله تعالى: " قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ".
فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا؛ لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا؛ لنتكلم بها فقط ولا؛ لمجرد تعريفنا بذلك بل لأمر وراء ذلك كله.
هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث.
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت، وأنتنت!
كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها!
وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما!
وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه!
وكيف قدّر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جُعِل لهما قرارا مكينا. لا يناله هواءٌ يفسده، ولا بردٌ يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه،
ثم قَلَّب تلك النطفةَ البيضاءَ المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها،
ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينةً للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها!
وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار، واليابس واللين وبين ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال!
وكيف كساها لحما ركبه عليها، وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا، وجعلها حاملة له مقيمة له. فاللحم قائم بها، وهي محفوظة به!
وكيف صوَّرها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ، ومد اليدين والرجلين، وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل!
وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء. كل واحد منها له قدر يخصه، ومنفعة تخصه!
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام ....
لحديث ابن القيم رحمه الله في التفكر في خلق الإنسان بقية تأتي إن شاء الله في المقال القادم. [/ COLOR][/SIZE][/FONT][/CENTER]
ـ[الضبيطي]ــــــــ[30 - 08 - 09, 06:22 م]ـ
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن، وعمادا له!
وكيف قدرها ربه، وخالقها بتقادير مختلفة، وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير، والطويل والقصير، والمنحنى والمستدير، والدقيق والعريض، والمصمت والمجوف!
وكيف ركب بعضها في بعض، فمنها ما تركيبه تركيب الذكر في الأنثى، ومنها ما تركيبه تركيب اتصال فقط!
وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها، ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردد في حاجته، لم يجعل عظامه عظما واحدا. بل عظاما متعددة!
وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه!
وكيف شد أسر تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار، ورباطات أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط له!
ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه، وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد؛ ليدخل فيها، وينطبق عليها فإذا أراد العبد أن يحرك جزءا من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه!
وتأمل كيفية خلق الرأس، وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل: إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع!
وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن، وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه!
ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس، وآلات الإدراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس!
وجعل حاسة البصر في مقدمه؛ ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن!
¥