وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص، ومقدار مخصوص، ومنفعة مخصوصة لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع، أو زالت عن هيئتها وموضعها، لتعطلت العين عن الإبصار!
ثم أركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا، وهو إنسان العين بقدر العدسة يبصر به ما بين المشرق والمغرب، والأرض والسماء!
وجعله من العين بمنزلة القلب من الأعضاء، فهو ملكها، وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له وحجاب وحراس. فتبارك الله أحسن الخالقين!
فانظر كيف حسّن شكل العينين، وهيأتها، ومقدارهما!
ثم جملهما بالأجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى، والقذا، والغبار، ويكنانهما من البارد المؤذي، والحار المؤذي!
ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالا وزينة، ولمنافع أخر وراء الجمال والزينة!
ثم أودعهما ذلك النور الباصر، والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض، ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب!
وقد أودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السموات مع اتساع أكنافها، وتباعد أقطارها!
وشق له السمع، وخلق الأذن أحسن خلقه، وأبلغها في حصول المقصود منها!
فجعلها مجوفة كالصدفة؛ لتجمع الصوت، فتؤديه إلى الصِّمَاخ، وليحس بدبيب الحيوان فيها، فيبادر إلى إخراجه!
وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل، فتكسر حدته، ثم تؤديه إلى الصماخ.
ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان، فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ الإنسان، أو ينتبه لإمساكه، وفيه أيضا حكم غير ذلك!
ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه
أن جعل ماء الأذن مرا في غاية المرارة، فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا إلى باطن الأذن. بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه!
وجعل ماء العينين ملحا؛ ليحفظها، فإنها شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا!
وجعل ماء الفم عذبا حلوا؛ ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه. إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته، كما أن من عرض لفمه المرارة استمر طعم الأشياء التي ليست بمرة،
كما قيل:
ومن يَكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يجد مُرًّا به الماءَ الزُّلالا [/ COLOR][/SIZE][/FONT][/CENTER]
ـ[الضبيطي]ــــــــ[30 - 08 - 09, 06:57 م]ـ
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه، فأحسن شكله وهيأته ووضعه.
وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة، والنافعة والضارة، وليستنشق به الهواء، فيوصله إلى القلب، فيتروح به، ويتغذى به!
ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن؛ لئلا يمسك الرائحة، فيضعفها، ويقطع مجراها.
وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ، فتجتمع فيه، ثم تخرج منه!
واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدق من أسفله؛ لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات، فخرجت بسهولة؛ ولأنه يأخذ من الهواء ملأه، ثم يتصاعد في مجراه قليلا حتى يصل إلى القلب وصولا لا يضره، ولا يزعجه!
ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة، فإنه لما كان قصبة، ومجرى ساترا لما يتحدر فيه من فضلات الرأس، ومجرى النفس الصاعد منه، جعل في وسطه حاجزا؛ لئلا يفسد بما يجري فيه، فيمنع نشقه للنفس. بل إما أن تعتمد الفضلات نازلة من أحد المنفذين في الغالب، فيبقى الآخر للتنفس، وإما أن يجرى فيهما فينقسم، فلا ينسد الأنف جملة. بل يبقى فيه مدخل للتنفس!
وأيضا فإنه لما كان عضوا واحدا، وحاسة واحدة، ولم يكن عضوين وحاستين كالأذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما، فإنه ربما أصيبت إحداهما، أو عرضت لها آفة تمنعها من كمالها، فتكون الأخرى سالمة فلا تتعطل منفعة هذا الحس جملة، وكان وجود أنفين في الوجه شيئا ظاهرا، فنصب فيه أنفا واحدا، وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجرى مجرى تعدد العينين والأذنين في المنفعة، وهو واحد، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين!
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع، وأليقه به، وأودع فيه من المنافع، وآلات الذوق، والكلام، وآلات الطحن، والقطع ما يبهر العقول عجائبه!
¥