فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجمانا لملك الأعضاء مبينا مؤديا عنه، كما جعل الأذن رسولا مؤديا مبلغا إليه!
فالأذن رسوله، وبريده الذي يؤدي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد!
واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالأذن والعين والأنف؛ لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة، ولما كان اللسان مؤديا منه إلى الخارج جعل له سترا مصونا؛ لعدم الفائدة في إبرازه؛ لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، وأيضا فلأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب، ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره، ضرب عليه سرادق تستره وتصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر!
وأيضا فإنه من ألطف الأعضاء، وألينها، وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزا صار عرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف، ولغير ذلك من الحكم والفوائد!
ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هن جمال له، وزينة، وبها قوام العبد، وغذاؤه!
وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع، فأحكم أصولها، وحدد رؤوسها، وبيض لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا!
وأحاط سبحانه على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما، وهما الشفتان، فحسّن لونهما، وشكلهما، ووضعهما، وهيأتهما، وجعلهما غطاء للفم، وطبقا له، وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام، ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وما جاوره وسطا، ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة!
واقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحما صرفا لا عظم فيه، ولا عصب؛ ليتمكن بهما من مص الشراب، ويسهل عليه فتحهما، وطبقهما!
وخص الفك الأسفل بالتحريك؛ لأن تحريك الأخف أحسن؛ ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة، فلم يخاطر بها في الحركة!
وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة، والخشونة والملاسة، والصلابة واللين، والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا!
ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الأعمى؛ لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم، كما يميز البصير بينهم بصورهم، والاشتباه العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصور!
وزين سبحانه الرأس بالشعر، وجعله لباسا له؛ لاحتياجه إليه!
وزين الوجه بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير!
فزينه بالحاجبين، وجعلهما وقاية لما يتحدر من بشرة الرأس إلى العينين، وقوسهما، وأحسن خطهما!
وزين أجفاف العينين بالأهداب!
وزين الوجه أيضا باللحية، وجعلها كمالا ووقارا، ومهابة للرجل!
وزين الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب، وتحتهما من العنفقة!
وكذلك خلقه سبحانه لليدين ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في خلق الإنسان إن شاء الله. [/ COLOR][/SIZE][/FONT][/CENTER]
ـ[الضبيطي]ــــــــ[01 - 09 - 09, 03:50 م]ـ
وكذلك خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد، وسلاحه، ورأس مال معاشه!
فطوَّلهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه!
وعرَّض الكف؛ ليتمكن به من القبض والبسط! وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنتين!
ووضع الأصابع الأربعة في جانب، والإبهام في جانب؛ لتدور الإبهام على الجميع!
فجاءت على أحسن وضع صلحت به للقبض والبسط، ومباشرة الأعمال. ولو اجتمع الأولون، والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعا آخر للأصابع سوى ما وُضِعت عليه لم يجدوا إليه سبيلا. فتبارك من لو شاء لسواها، وجعلها طبقا واحدا كالصفيحة، فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحه، وأنواع تصرفاته، ودقيق الصنائع والخط، وغير ذلك!
فإن بَسَط أصابعه كانت طبقا يضع عليه ما يريد، وإن ضَمَّها وقبضها كانت دبوسا وآلة للضرب، وإن جعلها بين الضم والبسط كانت مِغْرَفة له يتناول بها، وتمسك فيها ما يتناوله!
وركَّب الأظفار على رؤوسها زينة لها، وعمادا، ووقاية؛ وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع!
¥