تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد تقدم ذلك وكذلك يقرن بين القلب والبصر كقوله تعالى: " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ".

وقوله تعالى في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: " ما كذب الفؤاد ما رأى " ثم قال: " ما زاغ البصر وما طغى ".

وكذلك الأذن هي رسوله المؤدى إليه، وكذلك اللسان ترجمانه.

وبالجملة فسائر الأعضاء خدمه وجنوده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ".

وقال أبو هريرة رضي الله: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فان طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.

وانظر كيف جعلت الرئة له كالمروحة تروح عليه دائما؛ لأنه أشد الأعضاء حرارة. بل هو منبع الحرارة.

وأما الدماغ وهو المخ، فإنه جعل باردا واختلف في حكمة ذاك. فقالت طائفة إنما كان الدماغ باردا؛ لتبريد الحرارة التي في القلب؛ ليردها عن الإفراط إلى الاعتدال. وردت طائفة هذا وقالت لو كان كذلك لم يكن الدماغ بعيدا عن القلب بل كان ينبغي أن يحيط به كالرئة أو يكون قريبا منه في الصدر؛ ليكسر حرارته. قالت الفرقة الأولى بعد الدماغ من القلب لا يمنع ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قرب منه لغلبته حرارة القلب بقوتها، فجعل البعد بينهما بحيث لا يتفاسدان، وتعتدل كيفية كل واحد منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرئة فإنها آلة للترويح على القلب لم تجعل لتعديل حرارته.

وتوسطت فرقة أخرى وقالت: بل المخ حار لكنه فاتر الحرارة، وفيه تبريد بالخاصية. فإنه مبدأ للذهن، ولهذا كان الذهن يحتاج إلى موضع ساكن قار صاف عن الأقذار والكدر خال من الجلبة والزجل.

ولذلك يكون جودة الفكر والتذكر واستخراج الصواب عند سكون البدن، وفتور حركاته، وقلة شواغله ومزعجاته. ولذلك لم يصلح لها القلب، وكان الدماغ معتدلا في ذلك صالحا له. ولذلك تجود هذه الأفعال في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسد عند التهاب نار الغضب والشهوة، وعند الهم الشديد، ومع التعب والحركات القوية البدنية والنفسانية.

وهذا بحث متصل بقاعدة أخرى، وهي أن الحواس والعقل هل مبدؤها القلب والدماغ؟

وفي هذا المقام يطول الكلام، ويكثر الخصام والله اعلم بالصواب، وبه التوفيق.

والمقصود التنبيه على أقل القليل من وجوه الحكمة التي في خلق الإنسان والأمر أضعاف أضعاف ما يخطر بالبال، أو يجرى فيه المقال.

وإذا نظر العبد إلى غذائه فقط في مدخله، ومستقره، ومخرجه رأى فيه العبر والعجائب! كيف جعلت له آلة يتناول بها! ثم باب يدخل منه! ثم آلة تقطعه صغارا! ثم طاحون يطحنه! ثم أُعين بماء يعجنه! ثم جعل له مجرى وطريقا إلى جانب النَّفَس ينزل هذا، ويصعد هذا، فلا يلتقيان مع غاية القرب! ثم جعل له حوايا، وطرقا توصله إلى المعدة. فهي خزانته، وموضع اجتماعه!

ولها بابان:

باب أعلى يدخل منه الطعام، وباب أسفل يخرج منه تفله!

والباب الأعلى أوسع من الأسفل إذ الأعلى مدخل للحاصل، والأسفل مصرف للضار منه، والأسفل منطبق دائما؛ ليستقر الطعام في موضعه. فإذا انتهى الهضم فإن ذلك الباب ينفتح إلى انقضاء الدفع!

ويسمى البواب لذلك، والأعلى يسمى فم المعدة. والطعام ينزل إلى المعدة متكيمسا، فإذا استقر فيها انماع، وذاب!

ويحيط بالمعدة من داخلها وخارجها حرارة نارية. بل ربما تزيد على حرارة النار ينضج بها الطعام فيها، كما ينضج الطعام في القدر بالنار المحيطة به!

ولذلك يذيب ما هو مستحجر كالحصا وغيره حتى يتركه مائعا، فإذا أذابته علا صفوه إلى فوق، ورسا كدره إلى أسفل!

ومن المعدة عروق متصلة بسائر البدن يبعث فيها معلوم كل عضو، وقوامه بحسب استعداه وقبوله، فيبعث أشرف ما في ذلك، وألطفه، وأخفه إلى الأرواح!

فيبعث إلى البصر بصرا، وإلى السمع سمعا، وإلى الشم شما، وإلى كل حاسة بحسبها!

فهذا ألطف ما يتولد عن الغذاء، ثم ينبعث منه إلى الدماغ ما يناسبه في اللطافة والاعتدال، ثم ينبعث من الباقي إلى الأعضاء في تلك المجاري بحسبها!

وينبعث منه إلى العظام والشعر والأظفار ما يغذيها، ويحفظها. فيكون الغذاء داخلا إلى المعدة من طرق ومجار، وخارجا منها إلى الأعضاء من طرق ومجار.

هذا وارد إليها، وهذا صادر عنها!

حكمة بالغة ونعمة سابغة!

ولما كان الغذاء إذا استحال في المعدة استحال دما، ومرة سوداء، ومرة صفراء، وبلغما، اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن جعل لكل واحد من هذه الأخلاط مصرفا ينصب إليه، ويجتمع فيه، ولا ينبعث إلى الأعضاء الشريفة إلا أكمله!

فوضع المرارة مصبا للمرة الصفراء!

ووضع الطحال مقرا للمرة السوداء!

والكبد تمتص أشرف ما في ذلك، وهو الدم، ثم تبعثه إلى جميع البدن من عرق واحد ينقسم على مجار كثيرة!

يوصل إلى كل واحد من الشعور والأعصاب والعظام والعروق ما يكون به قوامه!

ثم إذا نظرت إلى ما فيه من القوى الباطنة، والظاهرة المختلفة في أنفسها، ومنافعها رأيت العجب العجاب!

كقوة سمعه، وبصره، وشمه، وذوقه، ولمسه، وحبه، وبغضه، ورضاه، وغضبه، وغير ذلك من القوى المتعلقة بالإدراك والإرادة! وكذلك القوى المتصرفة في غذائه، كالقوة المنضجة له، وكالقوة الماسكة له، والدافعة له إلى الأعضاء، والقوة الهاضمة له بعد أخذ الأعضاء حاجتها منه. إلى غير ذلك من عجائب خلقته الظاهرة والباطنة.

فارجع الآن إلى النطفة، وتأمل حالها أولا ... .

سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!

لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في خلق الإنسان إن شاء الله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير