قال المسقطون للوجوب: لا يمكنكم الاستدلال بهذا الحديث إلا بعد إثبات بطلان صلاة الفذ خلف الصف, وهذا قول شاذ مخالف لجمهور أهل العلم, وقد دل على صحتها إجماع الناس على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصف, وقد صلى رسول الله خلف جبريل, فروى جابر بن عبد الله, «أن النبيَّ أتاه جبريل يعلمه مواقيت الصلاة, فتقدم جبريل, ورسول الله خلفه, والناس خلف رسول الله, فصلى الظهر حين زالت الشمس, وأتاه حين كان الظل مثل شخصه, فصنع كما صنع, فتقدم جبريل, ورسول الله خلفه, والناس خلف رسول الله» , رواه النسائي [رقم:513].
فقد صلى رسول الله خلف جبريل مقتدياً به.
قالوا: وقد أحرم أبو بكرة فَذّاً خلف الصف, ثم مشى حتى دخل الصف, ولم يأمره النبي بالإعادة! [البخاري, رقم:783].
قالوا: وقد أحرم ابن عباس عن يساره فأخذ بيده فأداره عن يمينه فأدراه عن يمينه [البخاري, رقم:699, ومسلم, رقم:763] , ولم يأمره النبي [كما في مسلم] باستقبال الصلاة, بل صحح إحرامه فَذّاً. فهذا في النفل, وحديث جابر في الفرض أنه قام عن يسار رسول الله, فأخذ بيده فأقامه عن يمينه [مسلم, رقم:3010].
قال الموجبون: الْعَجَبُ من معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة بمثل ذلك! فإنه لا تعارض بين الأحاديث بوجه من الوجوه!
وأما قولكم: (إن هذا قول شاذ) , فلعمر الله ليس شاذاً, ومعه رسول الله, وسنته الصحيحة والصريحة, ولو تركها من تركها, فلا يكون ترك السنن لخفائها على من تركها, أو لنوع تأويل مسوغا لتركها لغيره, وكيف يقدم ترك التارك لهذه السنة عليها هذا؟!
وقد قال بهذه السنة جماعة من أكابر التابعين, منهم: سعيد بن جبير, وطاووس, وإبراهيم النخعي, ومن دونهم, كالحكم, وحماد, وابن أبي ليلى, والحسن بن صالح, ووكيع, وقال بها: الأوزاعي, حكاه الطحاوي عنه, وإسحاق بن راهُويَهْ, والإمام أحمد, وأبو بكر ابن المنذر, ومحمد بن إسحاق بن خزيمه, فأين الشذوذ؟! وهؤلاء القائلون, وهذه السنة!
= وأما معارضتكم بموقف المرأة: فمن أفسد المعارضات؛ لأن ذلك هو موقف المرأة المشروع لها, حتى لو وقفت في صف الرجال أفسدت صلاة من يليها عند أبي حنيفة, وأحد القولين في مذهب أحمد.
فإن قيل: لو وقفت فَذَّةً خلف صَفِّ النساء صحت صلاتها!
قيل: ليس كذلك, بل إذا انفردت المرأة عن صف النساء, لم تصح صلاتها, كالرجل الفَذِّ خلف الرجال. ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في تعليقه, لعموم قوله: «لا صلاة لفرد خلف الصف» [مسند أحمد] , [فـ] خَرَج من هذا ما إذا كانت وحدها خلف الرجال؛ للحديث الصحيح, [و] بقي فيما عداه على هذا العموم.
وأما قصة صلاته صلوات الله وسلامه عليه خلف جبريل وحده, والصحابة خلفه, فقد أجيب عنها بأنها كانت في أول الأمر حين عَلَّمه مواقيت الصلاة, وقصة أَمْرِه الذي صلى خلف الصف فَذّاً بالإعادة, متأخرة بعد ذلك. وهذا جواب صحيح.
وعندي فيه جواب آخر, وهو: أن النبي كان هو إمام المسلمين, فكان بين أيديهم, وكان هو المؤتم بجبريل وحده, وكان تَقَدُّمُ جبريل عليه السلام أبلغَ في حصول التعليم من أن يكون إلى جانبه, كما أن النبي صلى بهم على المنبر ليأتموا وليتعلموا صلاته, وكان ذلك لأجل التعليم لم يدخل في نهيه الإمام به إذا أمّ الناس أن يقوم في مقام أرفع منهم. [راجع: أبوداود, رقم:597, 598].
وأما (قصة أبي بكرة) , فليس فيها أنه رفع رأسه من الركوع قبل دخوله في الصف؛ وإنما يمكن التمسك بها لو ثبت ذلك! ولا سبيل إليه.
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد فيمن ركع دون الصف, ثم مشى راكعا حتى دخل فيه بعد أن رفع الإمام رأسه من الركوع, وعنه في ذلك ثلاث روايات:
1. تصح مطلقا, وحجة هذه الرواية: أن النبي لم يأمر أبا بكرة بالإعادة, ولا استفصله؛ هل أدركه قبل رفع رأسه من الركوع؟ أم. لا؟ ولو اختلف الحال لاستفصله!
وقد روى سعيد بن منصور في سننه [الموطأ1/ 165, وسنن البيهقي2/ 90, 3/ 106]: عن زيد بن ثابت, «أنه كان يركع قبل أن يدخل في الصف, ثم يمشي راكعا ويعتد بها, وصل الصف أم لم يصل».
2. والرواية الثانية: أنها لا تصح. نص عليها في رواية إبراهيم بن الحارث, ومحمد بن الحكم, وفرَّق بينه وبين من أدرك الركوع في الصف؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة, فأشبه ما لو أدركه وقد سجد, وهذه الرواية أصح عند أكثر أصحابه.
3. والرواية الثالثة: إن كان عالما بالنهي لم تصح صلاته, وإلا صحت؛ لقصة أبي بكرة, وقولِ النبي: «لا تعد» , والنهي يقتضي الفساد! ولكنْ ترك في الجاهل به حيث لم يأمره بالإعادة, وكان هذه حال أبي بكرة.
وأما قصة ابن عباس وجابر في ترك أمرهما بابتداء الصلاة وقد أحرما فَذَّيْن؛ فهذه أولاً: ليس فيه أنهما قد دخلا في الصلاة؛ وإنما فيه أنهما وقفا عن يساره فأدارهما عند أول وقوفهما, ولو قُدِّر أنهما أحرما كذلك فمن أحرم فَذّاً صح إحرامه بالصلاة ودخوله فيها, وإنما الاعتبار بالركوع وحده, وإلا فمن وقف معه آخَرٌ قبل الركوع صحت صلاته, ولو اعتبرنا إحرام المأمومين جميعا لم ينعقد تحريم أحد حتى يتفق هو ومن إلى جانبه في ابتداء التكبير وانتهائه, وهذا من أعظم الحرج والمشقة, ولهذا لم يعتبره أحدٌ أصلاً. والله أعلم.
الدليل العاشر: ما رواه أبو داود في سننه [رقم:547] , والإمام أحمد في مسنده [5/ 196] , من حديث أبي الدرداء, قال: قال رسول الله: «ما ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة=إلا استحوذ عليهم الشيطان, فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية».
فوجه الاستدلال منه: أنه أخبر باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها الأذان وإقامة الصلاة, ولو كانت الجماعة نَدْبَاً يُخَيَّرُ الرجل بين فعلها وتركها؛ لما استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها.
¥