ـ[أبوالليث الشيراني]ــــــــ[21 - 06 - 10, 02:35 ص]ـ
فَصْلٌ فِي: أَدِلَّةِ الْمُوجِبِينَ اَلْجَمَاعَةَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ.
قال الموجبون:
التفضيل لا يستلزم براءة الذمة من كل وجه, سواء كان مطلقاً أو مقيَّداً؛ فإن التفضيل يحصل مع مناقضة المفضل للمفضل عليه من كل وجه, كقوله تعالى: «أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا» [25/ 24] , وقوله تعالى: «قل أذلك خير أم جنة الخلد» [25/ 15] , وهو كثير.
فَكَوْنُ صلاةِ الفَذِّ جُزْءاً واحداً من سبعة وعشرين جزءا من صلاة الجميع=لا يستلزم إسقاط فرض الجماعة ولزوم كونها ندباً بوجه من الوجوه, وغايتها أن يتأدى الواجب بهما, وبينهما من الفضل ما بينهما, فإن الرجلين يكون مقامهما في الصف واحدا, وبين صلاتهما في الفضل كما بين السماء والأرض!
وفي السنن [أبوداود, رقم:796] , عنه: «إن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب له من الأجر إلا نصفها, ثلثها, ربعها, خمسها, حتى بلغ عشرها».
فإذا عقل اثنان يصليان فرضهما صلاة أحدهما أفضل من صلاة الآخر بعشرة أجزاء وهما فرضان=فهكذا يعقل مثله في صلاة الفَذِّ وصلاة الجماعة.
وأبلغ من هذا قوله: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها» [اتحاف السادة المتقين:3/ 112, 4/ 123] , فإذا لم يعقل في صلاته إلا في جزء واحد كان له من الأجر بقدر ذلك الجزء, وإن برئت ذمته من الصلاة! فهكذا المصلي وحده له جزء واحد من الأجر؛ وإن برئت الذمة.
ومثل هذه الصلاة لا يسميها الشارع صحيحة؛ وإن اصطلح الفقهاء على تسميتها صلاة؛ فإن الصحيح المطلق ما تربت عليه أثره, وحصل به مقصوده, وهذه قد فات معظم أثرها ولم يحصل منها جل مقصودها! فهي أبعد شيء من الصحة, وأحسن أحوالها أن ترفع عنه العقاب, وإن حصلت شيئا من الثواب فهو جزء, وما هذا إلا على قول من لا يجعلها شرطا للصحة.
وأما من جعلها شرطا لا تصح بدونه فجوابه: إن التفضيل إنما هو بين صلاتين صحيحتين, وصلاة الرجل وحده إنما تكون صحيحة للعذر؛ وأما بدون العذر فلا صلاة له كما قال الصحابة رضي الله عنهم.
وهؤلاء لو أجابوا بهذا لرد عليهم منازعوهم: إن المعذور يكمل له أجره؛ فأجابوا على ذلك بأنه لا يستحق بالفعل إلا جزءا واحدا, وأما التكميل فليس من جهة الفعل, بل بالنية. إذا كان من عادته أن يصلي جماعة فمرض, أو حبس, أو سافر, وتعذرت عليه الجماعة, والله يعلم أن من نيته أن لو قدر على الجماعة لما تركها؛ فهذا يكمل له أجره, مع أن صلاة الجماعة أفضل من صلاته من حيث العملين.
قالوا: (ويتعين هذا ولا بد)؛ فإن النصوص قد صرحت بأنه لا صلاة لمن سمع النداء ثم صلى وحده, فدل على أن من له جزء من سبعة وعشرين جزءا هو المعذور الذي له صلاة.
قالوا: والله تعالى يفضل القادر على العاجز, وإن لم يؤاخذه؛ فذلك فضله يؤتيه من يشاء.
وفي صحيح البخاري [رقم:1115] , عن عمران بن حصين, وكان مبسورا, قال: سألت رسول الله عن صلاة الرجل وهو قاعد, فقال: «من صلى قائما فهو أفضل, ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم, ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد».
فهذا إنما هو في المعذور, وإلا فغير المعذور ليس له من الأجر شيء إذا كانت الصلاة فرضا, وإن كانت نفلا لم يجز له التطوع على جنب؛ فإنه لم يفعله رسول الله يوماً من الدهر, ولا أحد من الصحابة البتة مع شدة حرصهم على أنواع العبادة وفعل كل خير؛ ولهذا جمهور الأمة يمنع منه, ولا تجوز الصلاة على جنب إلا لمن لم يستطع القعود, كما قال النبي لعمران: «صل قائما, فإن لم تستطع فقاعدا, فإن لم تستطع فعلى جنب» [البخاري, رقم:1117] , وعمران بن حصين هو راوي الحديثين, وهو الذي سأل عنهما النبي.
ـ[أبوالليث الشيراني]ــــــــ[21 - 06 - 10, 02:36 ص]ـ
فَصْلٌ فِي: مناقشة أدلّة منكري فرضيّة الجماعة.
وأما استدلالكم بحديث عثمان بن عفان: «من صلى العشاء في جماعة, فكأنما قام نصف الليل» [مسلم, رقم:656] , فمن أفسد الاستدلال! وأظهر ما في نقضه عليكم, قوله: «من صام رمضان, وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر» [مسلم, رقم:1164, والترمذي, رقم:759, وأبوداود, رقم:2433, وابن ماجه, رقم:1716] , وصيام الدهر غير واجب؛ وقد شبه به الواجب! بل الصحيح: أن صيام الدهر كله مكروه, فقد شبه به الصوم الواجب؛ فغير ممتنع تشبيه الواجب بالمستحب في مضاعفة الأجر على الواجب القليل=حتى يبلغ ثوابه ثواب المستحب الكثير.
وأما استدلالكم بحديث يزيد بن الأسود, ومحجن بن الأدرع, وأبي ذر, وعبادة؛ فليس في حديث واحد منهم أن الرجل كان قد صلى وحده منفردا مع قدرته على الجماعة البتة! ولو أخبر النبي لما أقره على ذلك, وأنكر عليه, وكذلك ابن عمر, لم يقل: (صليت وحدي وأنا أقدر على الجماعة).
نقول: إنه لم يصل من ترك الجماعة, وهو يقدر عليها.
ونقول كما قال أصحاب رسول الله: (إنه لا صلاة له)؛ فحيث يثبت لهؤلاء صلاة, فلا بد من أحد الأمرين:
1. أن يكونوا صلوا جماعة مع غير هذه الجماعة.
2. أو يكونوا معذورين وقت الصلاة. ومن صلى وحده لعذر ثم زال عذره في الوقت لم يجب عليه إعادة الصلاة, كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت, أو صلى قاعدا لمرض ثم بريء في الوقت, أو صلى عريانا ثم وجد السترة في الوقت.
= وقد دلت أحكام الشريعة على أن صلاة الجماعة فرض على كل واحد؛ وذلك من وجوه:
أحدها: أن الجمع لأجل المطر جائز, وليس جوازه إلا محافظة على الجماعة, وإلا فمن الممكن أن يصلي كل واحد في بيته منفردا, ولو كانت الجماعة ندبا لما جاز ترك الواجب وتقديم الصلاة في وقتها لأجل ندب محض!
الثاني: أن المريض إذا لم يستطع القيام في الجماعة وأطاق القيام إذا صلى وحده=صلى جماعة وترك القيام, ومحال أن يترك ركنا من أركان الصلاة لمندوب محض!
الثالث: أن الجماعة حال الخوف يفارقون الإمام, ويعملون العمل الكثير في الصلاة, ويجعلون الإمام منفردا في وسط الصلاة, كل ذلك؛ لأجل تحصيل الجماعة! وكان من الممكن أن يصلوا وحدانا بدون هذه الأمور. ومحال أن يرتكب ذلك وغيره لأجل أمر مندوب -إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله-, وبالله التوفيق.
¥