تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثالثا: إباحة الدف في أحوال مخصوصة -كما سبق- استثناء من الأصل الذي هو منع آلات اللهو؛ فلا يُتجاوز في الترخيص موضعه، وهذا ما تدل عليه السنة؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام أقر أبا بكر رضي الله عنه حينما انتهر عائشة رضي الله عنها -كما في الصحيحين- لما دخل عليها يوم العيد وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بالدف وقال: (مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم!)، وهذا -كما يقول أبو العباس القرطبي-: (إنكارٌ منه لما سمع، مستصحبًا لما كان تقرر عنده من تحريم اللهو والغناء جملة؛ حتى ظن أن هذا من قبيل ما يُنكر، فبادر إلى ذلك ... وعند ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما)، ثم علل الإباحة بأنه يوم عيد؛ يعني أنه يوم سرور وفرح شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا) (المفهم 2/ 534). وقال ابن رجب في فتح الباري (6/ 81): (وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّل بأنها أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد. وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف "مزمور الشيطان"، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع).

وفي المسألة دلائل أخرى أدعها طلبا للإيجاز، لكني أختم هذا الموضع بتنبيه الشيخ عادل: ماذا تصف انتهار أبي بكر رضي الله عنه وإنكاره إنشادا بريئا لجاريتين صغيرتين بكلام عري عن الفحش؟

أعيذك بالله أن تصفه بالإصابة "بجرثومة التحريم" كما وصفتَ طائفة كبيرة من علمائنا وطلبة العلم منا.

رابعا: الاستثناء العارض للدف من أصل التحريم لا يدل على جواز غيره من آلات اللهو والمعازف في الحالات المستثناة، فضلا عن الجواز المطلق.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/ 443): (ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه).

وهذا بيّن يُدرك بأدنى تأمل، وقد أجاد ابن رجب رحمه الله في تقرير هذا المعنى حيث قال في فتح الباري (6/ 77 - 79): (ولا ريب أن العرب كان لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ليس فيها جلاجل ... فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص لهم في أوقات الأفراح كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار وما كان في معناها، فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة على طريقة الموسيقى، بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه، حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل -وروي عنه مرفوعا- وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم، فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي غناءً وسميت آلاته دفوفا، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى، ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا، وغناء الأعراب المرخص به ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة؛ فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا، وإنما هي قضايا أعيان وقع الإقرار عليها، وليس لها من عموم. وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب؛ فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب. وقد صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذم من يستمع القينات في آخر الزمان، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير