تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

استقر في الشريعة أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة، وعلى هذا تواردت آيات وأحاديث عديدة، فمنها (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) و (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، و (عليكم بالجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، و (الجماعة رحمة والفرقة عذاب).

وهذه الآيات والأحاديث هي الروح التي ولدت لدى المسلمين منذ العهد الأول قناعة بأن ما اجتمع عليه المسلمون هو الحق، فلا يجوز لأحد أن يخالفهم، ومن خالفهم فقد شذ، اتضح هذا جليًا في أمر الخلافة عامة وخلافة الصديق خاصة، لأنها هي الحدث الذي يمكن أن تتناقل الأمة في ذلك الوقت بما أوتيت من وسائل اتصال الاتفاق عليه، أما المسائل العلمية الأخرى فلم يكن لدى المسلمين الأوائل لا شبكة انترنت، ولا هواتف جوالة، ولا أجهزة تلفزة يطلعوا من خلالها على جميع آراء العلماء في آن واحد، فلم يتبلور الإجماع الأصولي بصورته التي تحدث عنها كثير من الأصوليين في كتبهم، إذ لا يتصور هذا قط، ولهذا قال الإمام أحمد (وما يدريك لعلهم اختلفوا).

ومع هذا كله، فثمة نصوص في عهد مبكر تشير إلى أن اجتماع الأمة على قول، بصرف النظر عن تقصي قول كل عالم أو من يقبل قوله في مثل هذه المسائل، فعن ضمرة عن أبي إسماعيل الكوفي قال سألت عطاء بن أبي رباح عن شيء فأجابني، فقلت له عمن ذا فقال ما اجتمعت عليه الأمة أقوى عندنا من الإسناد. إذ يبعد أن عطاء ابن أبي رباح الذي توفي 114 هـ، قد استقصى قول كل من انتسب من أهل العلم، والغالب أنه قد اكتفى أنه بما اشتهر عن العلماء ممن سمع بهم.

ثم لما صنف الشافعي (ت 204هـ) الرسالة، وهي أم الكتب في أصول الفقه، فطن لإبراز أدلة أخرى تدل على وجوب الانقياد للإجماع بصورة أصولية، فمن أشهر ما استدل به قول الله جل وعلا (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)، ثم أخذت نظرية الإجماع الأصولي في التشكل والتبلور وبدأت تعريفات "نظرية تظهر له"، ولما كان معرفة اتفاق جميع العلماء في آن واحد غير متصور من الناحية العملية، أخذت تعريفاتهم تتباين تباينا صغيرًا أو كبيرًا حول ماهيته.

لكن الاتساع في حركة التصنيف وانتشار الكتابة في بداية القرن الثالث الهجري ساهم مساهمة فعالة في تدوين أقوال العلماء، لا سيما أقوال الصحابة والأجيال الأولى من الفقهاء والعلماء، وعزز من قابلية معرفة ما اجتمع علماء الأمة عليه، وما اختلفوا فيه ـ وإن كان لا يتصور أن يحدث ذلك كما نتصوره نحن وقد عشنا في عصر الاتصال وانتقال المعلومة في جزء من الثانية ـ بل وعزز من دور الإجماع كمصدر للتشريع بجانب الكتاب والسنة، بل ومصدر لفهم نصوص الوحي، ومن ثم قدمه بعض العلماء عند ترتيب أدلة بعض المسائل على الكتاب والسنة، كما فعل ابن قدامة في المغني وغيره.

هذا العرض المختصر يهوّن علينا قبول وجود بعض الآراء التي تبناها بعض أهل العلم في زمن من الأزمنة، لكن أحدًا من تلامذتهم المقربين لم يتابعهم عليها، ولم تصبح مذهبًا متبوعا في أي من بلاد المسلمين، وهذا من حفظ الله لهذا الدين.

هذه الآراء التي انفرد بها بعض أهل العلم، جعلت مدوني أصول الفقه يختلفون "نظريًا" إزاء العلاقة بينها وبين الإجماع، فبعض العلماء نظر إليها أنها مجرد آراء لا تؤثر في انعقاد الإجماع، كما فعل ابن جرير الطبري، وابن المنذر، والنووي وغيرهم، وبعضهم نظر إليها على أنها قادحة في انعقاد الإجماع، لكن معالم الخلاف بين الفريقين تكاد تتضح حقيقتها بتصور وضع "الاتصال بين البشر" في ذلك الوقت.

فمن قال بأن مخالفة الواحد أو الاثنين تضر بانعقاد الإجماع، تحدث عن انعقاد إجماع في وقت معين، كأن تبحث مسألة وجوب قراءة الفاتحة على المصلي أيًا كان إمامًا أو مأمومًا في عام 300 هـ، فيرى الجميع أنها واجبة، إلا أن ابن جرير الطبري يخالف في ذلك فيرى أن المصلي لو قرأ من القرآن أحرفًا تساوي أحرف سورة الفاتحة صح ذلك له، فلا يتصور أحد عندئذ أن يُشنَّع على ابن جرير الطبري صاحب العلم الذي تحدثت الركبان بجلالته، ولا يجرؤ أحد أن يقول في ذلك الوقت "أجمعت الأمة على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة"، فأين هم من ابن جرير؟ لكن السنون تمضي، وهاهم تلامذة ابن جرير تهجر قول شيخها، ثم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير