تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تتابع الأمة قرنا بعد قرنا على هجرانه، فعندئذ سيتضح لدى الرائي أن ابن جرير قد انفرد بهذا القول، وأن الأمة قد أجمعت على خلافه، ولن يتعذر على بعض العلماء أن يتصور أن الإجماع ينعقد حتى مع مخالفة واحد أو اثنين.

هذا ما نقوله تنظيرًا، لكنني حاولت ـ وما زلت أحاول ـ استقراء المسائل التي انفرد فيها بعض العلماء، وموقف الفقه الإسلامي منها، ووجدت أن ثمة مئات من الأقوال تروى عن عدد من التابعين، وأتباعهم، وجيل الأئمة الأربعة، لم تتبن الأمة شيئا منها، وإنما حفظت ودونت في الكتب الفقه ليس إلا، و بقيت في هذا الحيز، دون أن تتجاوزه لتصبح مذهبا يعتنقه عدد من علماء المسلمين في أي مصر من الأمصار، بل إن تدوينها يزيد من قناعتنا بصلابة مورثنا الفقهي الإسلامي، فإنه لم يخف علينا شيئا، كما أن تتابع إعراض الأمة عن قول انفرد به واحد أو اثنين يؤكد شذوذه، فقد علمت به الأمة، ومع ذلك فما عمل به منها أحد سوى هذا، أو هذين.

ثم إننا إذا تأملنا تحذير العلماء قاطبة من الأخذ برخص العلماء، كقول سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً اهـ وأنهم أطلقوا الرخص على ما اجتمع فيه أمران:

أولها: انفراد واحد أو اثنين من العلماء به

ثانيهما: أن هذا الأمر توسع في الإباحة، أو ترخيص في أمر حرّمه الجماهير.

إذا تأملنا هذا التحذير من هذا الذي أسموه رخصًا لوجدناه يؤيد هذا الاتجاه؛ أي أن مخالفة الواحد والاثنين من العلماء لا تضر الإجماع، ولا يجوز العمل بذلك الانفراد، خاصة وإن كان متعلقا بجانب التيسير ـ في مقابل جانب التشديد ـ.

وقد تتابع العلماء على عبارة مفادها (أجمع أهل العلم إلا من شذ)، وقد أكثر من استخدامها ابن المنذر، ورُمي بالتساهل في نقل الإجماع وبعدم اعتبار مخالفة الواحد والاثنين مناقضة للإجماع، إلا أن كثيرًا من العلماء تناقلوا بعض عباراته مستشهدين بها، وبعضهم قرر عبارات مثلها دون الرجوع إليه، ولولا أن إيراد الأمثلة يصرف ذهن القارئ لها لأوردت عددًا منها، ويمكن الاستعانة بالاسطوانات المدمجة لاستقراء جملة منها، وإلا فكثير منها معلوم لدى طلبة العلم.

ومثل هذا ما انفرد به بعض الصحابة ولم يتابعوا عليه، بل تتابع العمل على خلاف ما انفردوا به، مثل عمل ابن عمر وأبي هريرة في إسباغ الوضوء، ورأي ابن مسعود في ترتيب المصحف وبعض سور القرآن، وقد تأدب العلماء فلم يصموا هذه الآراء بالشذوذ، ولكن أحدًا من العلماء لم يجز متابعتهم عليها.

وهنا يبرز السؤال: كيف يقال أجمع العلماء إلا من شذ، أليست مخالفة الواحد أو الاثنين تقوض ـ على مذهب الجمهور ـ انعقاد الإجماع؟ ولا يقف جوابٌ على هذا الإشكال إلا أن نقول إن الأصوليين الذين ذهبوا إلى أن الإجماع لا ينعقد بمخالفة واحد أو اثنين؛ قد ذهبوا لذلك تنظيرًا، أما تطبيقًا فإن الجميع اتفق على أن ثمة شيئًا اسمه قول شاذ، وأنه لا يجوز العمل به، وأن ضابطه أنه ما انفرد به واحد أو اثنين (بل ربما ثلاثة)، وأنه يتعين قبول القول الآخر (أو الأقوال الأخرى)؛ يتعين ذلك سواء سمينا ذلك إجماعًا أم لم نسمه إجماعًا. فحقيقته أنه أخذ حكم الإجماع وإن لم يسمه بعض العلماء إجماعًا!

وخلاصة الأمر، أن القول الشاذ الذي لا يجوز الأخذ به ـ كما هو واضح من اسمه ـ أنه القول الذي ينفرد به واحد أو اثنان (بل ربما ثلاثة من العلماء)، وهذا القول يكون قولا لم تتبناه أحد المذاهب الفقهية الأربعة، أو لم يحك قولاً فيها.

وهنا لا بد لنا من التأكيد على أنه ثمة من تبنى بعض هذه الآراء من غير أهل الأهواء ألئك، إذ قد تبين لهم ما ظنوه دليلاً، إلا أننا لا بد أن نملك قدرًا من الشجاعة لنقول بأنهم قد أخطأوا مع ظننا بأنهم مخلصون، ولا بد لنا من شجاعة مماثلة كذلك لنقرّ بأن بعض من أغلظ في الرد عليهم من أهل المذاهب والتقليد ما حملهم على ذلك إلا غيرتهم على الإسلام وخشيتهم من ظهور مدرسة اكتشاف الإسلام هذه بحجة العمل بالدليل ونبذ التقليد.

لم لا نعمل بالقول الشاذ:

الجواب له أكثر من شق؛ أما أولها، فإن القول الشاذ مخالف إما للإجماع، أو لحكم الإجماع، وقد تقدم ذلك.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير