حَتَّى أَتَّى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيئاً، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِيْنَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَّى المَشْعَرَ الحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى أَسْفَرَ جِدّاً.
فَدَفَعَ قبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً.
ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَنْحَرِ، فَنَحَرَ.
ثُمْ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُهْرَ. رَوَاهُ مُسْلِم مُطَوَّلاً.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم» (1218) من طريق حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم، حتى انتهى إليَّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين [(585)]، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذٍ غلام شاب، فقال: مرحباً بك يا ابن أخي سلّ عمّا شئت، فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقام في نِسَاجة [(586)] ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب [(587)]، فصلّى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال بيده، فعقد تسعاً، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم أذَّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه ... وساق الحديث بطوله.
وهذا الحديث من أفراد مسلم دون البخاري، وقد بدأ المؤلف أحاديث هذا الباب بحديث جابر رضي الله عنه لاشتماله على مسائل كثيرة، ثم ساق بعده الأحاديث المتعلقة بمسائل لم ترد فيه، وهو حديث عظيم شامل لأكثر ما ورد في حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويعتبر منسكاً مستقلاً، ولا سيما إذا جمعت رواياته وضم بعضها إلى بعض [(588)]، فإنه ذكر صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعظم أفعاله من خروجه من المدينة إلى رجوعه، ولكن المؤلف اختصر في أثنائه، وسيذكر الحافظ طرفاً منه في باب «الوكالة» من كتاب «البيوع»، ثم في باب «النفقات».
وسيكون الكلام ـ إن شاء الله ـ على مفرداته وجمله وفوائده، في كل جملة على حدة نظراً لطوله، وأضيف أثناء ذلك من روايات الحديث ما أرى له أهمية.
الوجه الثاني: قوله: (إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج) أي: مكث في المدينة، وأما في مكة فقد حج واحدة باتفاق [(589)]، كما ثبت في حديث أبي إسحاق قال: حدثني زيد بن أرقم: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة، لم يحجَّ بعدها: حجة الوداع)، قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى [(590)].
وقد ذكر الحافظ ابن كثير [(591)] أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعد الرسالة يحضر مواسم الحج ويدعو الناس، وجزم الحافظ ابن حجر بأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يترك الحج وهو بمكة قط، وقد ثبت دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية، وقد اعتمر صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة أربع عُمَر، كلهن في ذي القعدة [(592)].
الوجه الثالث: قوله: (إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجٌّ) وهي حجة الوداع كما تقدم، وهي سنة عشر، كما قال جابر رضي الله عنه، وكان خروجه صلّى الله عليه وسلّم من المدينة يوم السبت [(593)]، لخمس بقين من ذي القعدة، كما تقدم، وقدم مكة يوم الأحد رابع ذي الحجة [(594)]، فيكون صلّى الله عليه وسلّم مكث في الطريق ثمان ليال [(595)].
¥