الوجه الرابع: قوله: (فخرجنا معه) في هذا دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم بأفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم لاتباعه والتأسي به عليه الصلاة والسلام. ويستفاد من ذلك الحث على صحبة أهل العلم والفضل في الأسفار ولا سيما في الحج، لما في ذلك من الخير الكثير من الاستفادة من علمهم وأخلاقهم، إضافة إلى حفظ الوقت وصرفه فيما ينفع ويفيد، وهذا شيء ملاحظ ومحسوس.
الوجه الخامس: قوله: (فولدت أسماء بنت عميس) وهي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ولدت له محمداً في الميقات، وكانت قبل ذلك تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وأولاده منها، وبعد وفاة أبي بكر تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
والعجيب في الأمر أنه لم يرد لأسماء رضي الله عنها ذكر في حديث جابر رضي الله عنه في غير هذا الموضع مع كثرة طرقه وتعدد ألفاظه، فلا يُدرى ماذا صنعت فيما بعد؟ هل طهرت قبل رجوعهم فطافت، وهذا فيه بعد؟ أم أنها بقيت على نفاسها؟ وهل أذن لها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تطوف وهي نفساء من باب الضرورة؟ أم أنه أمر أحد محارمها أن يبقى معها؟ كل هذا مسكوت عنه، فالله تعالى أعلم بما كان من أمرها.
الوجه السادس: قوله: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي) الاستثفار: أن تشد المرأة على وسطها شيئاً ثم تأخذ خرقة عريضة تجعلها في محل الدم وتشدها من ورائها وقدامها ليمتنع الخارج، وفي معناها الوسائل المعروفة الآن عند النساء.
وفي هذا القدر دليل على أن النفساء وفي معناها الحائض إذا وصلت الميقات أنها تغتسل كالطاهرات ـ كما تقدم ـ وتتحفظ عن خروج الدم وتحرم، وتقدم الكلام على الاغتسال عند الإحرام.
الوجه السابع: قوله: (ثم ركب القَصواء، حتى إذا استوت به على البيداء أهلَّ بالتوحيد) القصواء ـ بفتح القاف ـ: وهي الناقة التي قطع طرف أذنها، وناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن مقطوعة الأذن، وإنما لقبها به حباً. وفي هذا دليل لمن قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهلَّ من البيداء، وتقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم أهلَّ عندما استوت به راحلته عند المسجد.
ومعنى (أهلَّ) رفع صوته بالتلبية، التي تشتمل على توحيد الله بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، فالتلبية شعار التوحيد الذي هو ملة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، وهو روح الحج ومقصده؛ بل روح العبادات كلها؛ لأن قوله: (والملك) من توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية مستلزم توحيد الألوهية، وفي قوله: (إن الحمد والنعمة) توحيد الأسماء والصفات، فإن الحمد: وصف المحمود بالكمال مع محبته وتعظيمه، والنعمة: من صفات الأفعال. وفي قوله: (أهلَّ) دليل على مشروعية رفع الصوت بالتلبية، كما تقدم.
الوجه الثامن: قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي: إجابة لك بعد إجابة، ولهذا المعنى كررت التلبية إيذاناً بتكرير الإجابة [(596)]، وهو منصوب بالياء إلحاقاً له بالمثنى، والمراد به التكثير، والناصب له فعل محذوف تقديره: أجيبك إجابة بعد إجابة، وينبغي للمحرم أن يستحضر ـ وهو يقول: لبيك ـ دعاء الله تعالى له وإجابته إياه، لا أن تكون عبارات التلبية مجرد ألفاظ تُردد؛ بل عليه أن يستحضر ذلك منذ خروجه من بلده، قال تعالى: {{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *}} [الحج: 27]، فالتلبية تتضمن إجابة داعٍ دعاك ومنادٍ ناداك؛ إذ لا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه.
وقوله: (لبيك لا شريك لك) التكرار للتأكيد، وهو أنه مجيب لربه، مقيم على طاعته، وقوله: (لا شريك) أي: فيما ذكر.
وقوله: (إن الحمد ... ) بكسر الهمزة وفتحها، فالكسر على أنها جملة مستأنفة، معناها: الحمد لله على كل حال، والفتح على التعليل؛ أي: لبيك لأن الحمد والنعمة لك، فيرجع الحمد والنعمة إلى التلبية، والكسر أجود؛ لأنه أعم؛ لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال.
و (الحمد): الوصف بالكمال مع المحبة والتعظيم، و (النعمة): الفضل والإحسان، ويدخل في هذا جميع النعم الظاهرة والباطنة، (لك) اللام الاختصاص؛ لأن الله وحده المحمود والمنعم.
¥