تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا كما ترى ليس فيه تحديد للمكان، وقد جزم ابن قدامة أن ذلك كان في منى [(638) ولعله أخذ ذلك من قوله: (غداة العقبة)، وذكر ابن حزم أنه التقطها له من موقفه الذي رمى فيه، وتبعه الألباني، وهذا فيه نظر، فقد ورد في «الصحيحين»: «أنه رمى الجمرة ضحى»، وهذا يفيد أن الالتقاط كان قبل وقت الرمي [(639)]، وقد جاء في «صحيح مسلم» من حديث الفضل: (حتى إذا دخل محسراً وهو من منى، قال: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة ... ») [(640)]، وظاهر هذا أنه أمر بلقطها في طريقه، وبه جزم ابن القيم [(641)]. والمقصود أنه ليس للحصى مكان معين، ومن فهم أن السنة الالتقاط من مزدلفة ـ كما يفعله كثير من الحجاج ـ فقد غلط، لعدم الدليل على ذلك.

الوجه الرابع والثلاثون: قوله: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر)، هذا فيه دليل على استحباب التثنية بالنحر بعد رمي جمرة العقبة، وقد نحر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة، ثم أعطى عليّاً فنحر الباقي، وكان هديه صلّى الله عليه وسلّم مائة بدنة.

والمتمتع والقارن كلاهما عليه هدي شكران لا جبران، أما المتمتع ففيه نص القرآن، قال تعالى: {{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وأما القارن فوجوب الهدي عليه هو مذهب جمهور العلماء إما بالقياس على المتمتع أو لدخوله في عموم قوله تعالى: {{فَمَنْ تَمَتَّعَ}}، وقد تقدم أن الصحابة رضي الله عنهم أطلقوا لفظ التمتع على نسك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو قارن.

وقال ابن حزم: (لا هدي على القارن، إلا الذي كان معه عند إحرامه) [(642)] وقال ابن قدامة: (لا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافاً، إلا ما حكي عن داود، أنه لا دم عليه، وروي ذلك عن طاوس، وحكى ابن المنذر أن ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن، هل يجب عليه دم؟ فقال: لا. فَجُرَّ برجله. وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم) [(643)].

ودم التمتع هو دم نسك وعبادة، فهو دم شكر حيث حصل للعبد نُسُكان في سفر واحد وزمن واحد، وهو من تمام النسك وكماله، وهو من رحمة الله تعالى بعباده وإحسانه إليهم، حيث شرع لهم ما به كمال عبادتهم وزيادة أجرهم، وأباح لهم بسببه التحلل أثناء الإحرام، لما في استمراره عليهم من المشقة، ولهذا كان الدم فيه وفي القِران دم شكر لا دم جبران، إذ لا نقص في هذا النسك حتى يجبر، فيأكل منه الحاج، ويهدي، ويتصدق، فعليه أن يعرف هذه الفائدة، فإن في الدم أو بدله أجراً، كما أن في التمتع أجراً، فلا يَحْرِمُ الإنسان نفسه ذلك، فيحج مفرداً لئلا يلزمه الدم.

وقد تقدم أن القارن إذا لم يكن معه هدي، فإنه يشرع له فسخ إحرامه إلى عمرة، وأن أفضلية القران إنما هي في حال سوق الهدي، كنسك النبي صلّى الله عليه وسلّم.

ولم يرد ذكر الحلق في هذه الرواية، وقد جاء عند أحمد من حديث جابر رضي الله عنه: (نحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحلق) [(644) وفي حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: «خذ»، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس [(645)]. وهذا يدل على أن السُّنَّة أن يكون الحلق بعد النحر، فتكون هذه الأعمال الثلاثة يوم النحر مرتَّبة، فإن قدم بعضها على بعض فلا بأس، كما سيأتي إن شاء الله.

الوجه الخامس والثلاثون: قوله: (ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر) معنى (فأفاض) أي: طاف طواف الإفاضة، وهذا فيه دليل على استحباب طواف الإفاضة بعد الرمي والنحر والحلق إن تيسر، وإلا فالأمر فيه سعة، فإن لم يستطع الطواف في هذا الوقت لانشغاله بالرمي، أو بنحر هديه وتفريقه، فله تأخير الطواف إلى آخر يوم النحر أو أيام التشريق.

وقد ذكر الفقهاء أن وقت طواف الإفاضة يبدأ من مغيب القمر ليلة النحر، بشرط أن يسبقه الوقوف بعرفة ومزدلفة، فمن دفع من مزدلفة من الضعفة في هذا الوقت ورمى جمرة العقبة، فله أن يذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ولا سيما من معه نساء يخاف عليهن الزحام، أو العادة الشهرية [(646)].

وأما آخر وقته فلم يرد فيه نص، والجمهور على جواز تأخيره ولو بعد نهاية شهر ذي الحجة، والأولى ألا يؤخره عن شهر ذي الحجة، إلا من عذر كمرض أو نفاس أو نحو ذلك [(647)]، لأن الحاج يبقى محرماً، إذ لم يحصل له التحلل الأكبر بطواف الإفاضة، قال ابن قدامة: (والصحيح أن آخر وقته غير محدد، فإنه متى أتى به صح بغير خلاف، وإنما الخلاف في وجوب الدم) [(648)]، وانفرد ابن حزم بالقول بأن تأخير طواف الإفاضة إلى انتهاء شهر ذي الحجة مبطل للحج [(649)].

وقول جابر رضي الله عنه (فصلى بمكة الظهر) يعارضه قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى بمنى) [(650)]، وجُمع بينهما بأنه صلّى الله عليه وسلّم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه [(651)] رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير